فصل: الثّالث: أن لا يعلم اعتبار الشّارع ولا إلغاؤه

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الموسوعة الفقهية الكويتية ****


مُنَاسَبة

التّعريف

1 - المناسبة في اللغة‏:‏ الملاءمة‏.‏

قال ابن الحاجب وغيره‏:‏ المناسبة وصف ظاهر منضبطٌ‏,‏ يحصل عقلاً من ترتب الحكم عليه ما يصلح أن يكون للعقلاء منه مصلحة دينيّة‏,‏ أو دنيويّة‏,‏ أو دفع مفسدة‏.‏

الحكم الإجمالي

2 - المناسبة من الطرق المعقولة ويعبّر عنها‏:‏ بالإخالة‏,‏ وبالمصلحة‏,‏ والاستدلال‏,‏ وبرعاية المقاصد‏,‏ ويسمّى استخراجها تخريج المناط‏,‏ لأنّه إبداء مناط الحكم‏.‏

دليل إفادة المناسبة للعلّيّة

3 - احتجّ إمام الحرمين على إفادة المناسبة للعلّيّة بتمسك الصّحابة بها‏,‏ فإنّهم يلحقون غير المنصوص بالمنصوص‏,‏ إذا غلب على ظنّهم أنّه يضاهيه لمعنى أو يشبهه‏,‏ ثمّ قال‏:‏ فالأولى الاعتماد لإفادة المناسبة للعلّيّة على العمومات الدّالّة على الأمر بالقياس‏.‏

تقسيم المناسب

4 - ينقسم المناسب من حيث الحقيقة والإقناع‏:‏ إلى حقيقي وإقناعي‏,‏ لأنّ المناسب إن كان بحيث لا يزول بالتّأمل فيه فهو الحقيقي وإلّا فهو الإقناعي‏.‏

والحقيقي ينقسم إلى ما هو‏:‏ واقع في محلّ الضّرورة‏,‏ أو محلّ الحاجة‏,‏ أو محلّ التّحسين‏.‏

تقسيم المناسبة من حيث الاعتبار الشّرعي وعدمه

تنقسم المناسبة باعتبار شهادة الشّرع لها بالملاءمة والتّأثير وعدمها‏,‏ إلى ثلاثة أقسام‏:‏

الأوّل‏:‏ أن يلغيه الشّارع

5 - إذا أورد الشّارع الفروع على عكس المناسبة‏,‏ فلا إشكال في أنّه لا يجوز التّعليل به‏,‏ وذلك كإيجاب صوم شهرين في كفّارة الجماع في نهار رمضان على مالك الرّقبة‏,‏ فإنّه وإن كان أبلغ في ردعه من العتق‏,‏ إلّا أنّ الشّارع بإيجابه الإعتاق ابتداءً ألغاه‏,‏ فلا يجوز اعتباره‏.‏

الثّاني‏:‏ أن يعتبره الشّارع

6 - وذلك بأن يورد الشّارع الفروع على وفق المناسبة‏,‏ وليس المراد باعتباره‏:‏ أن ينصّ الشّارع على العلّة أو يومئ إليها‏,‏ وإلّا لم تكن العلّة مستفادةً من المناسبة‏.‏

الثّالث‏:‏ أن لا يعلم اعتبار الشّارع ولا إلغاؤه

7 - وهو الّذي لا يشهد له أصل معيّن من أصول الشّريعة بالاعتبار ولا بالإلغاء‏,‏ وهو المسمّى ‏"‏ بالمصالح المرسلة ‏"‏ وقد اعتبره المالكيّة من أدلّة الفقه‏.‏

تقسيم المناسبة من حيث التّأثير والملاءمة

تنقسم المناسبة إلى مؤثّر وملائم وغريب‏:‏

8 - الأوّل‏:‏ المؤثّر‏:‏ وهو ما ظهر تأثيره في الحكم بنصّ أو إجماع‏,‏ وسمّي مؤثراً‏,‏ لظهور تأثير الوصف في الحكم‏.‏

فالنّص كمسّ المتوضّئ ذكره‏,‏ فإنّه أعتبر عينه في عين الحدث بنصّ الحديث عليه‏:‏ «من مسّ ذكره فلا يصلّ حتّى يتوضّأ»‏,‏

والإجماع‏:‏ كقياس الأمة على الحرّة في سقوط الصّلاة بالحيض‏,‏ لما فيه من مشقّة التّكرار‏,‏ إذ ظهر تأثير عينه في عين الحكم بالإجماع‏,‏ ولكن في محل مخصوصٍ‏,‏ فعُدّي إلى محل آخر‏.‏

وهذا لا خلاف في اعتباره عند القائلين بالقياس‏.‏

9 - الثّاني‏:‏ الملائم‏:‏ وهو أن يعتبر الشّارع عينه في عين الحكم‏,‏ بترتب الحكم على وفق النّصّ‏,‏ لا بنصّ ولا إجماع‏,‏ وسمّي ملائماً لكونه موافقاً لما اعتبره الشّارع‏,‏ وهذه المرتبة دون ما قبلها‏,‏ ومثّله صاحب روضة النّاظر من أصوليّي الحنابلة‏:‏ بظهور المشقّة في إسقاط الصّلاة عن الحائض‏,‏ فإنّه ظهر تأثير جنس الحرج في إسقاط قضاء الصّلاة عن الحائض كتأثير مشقّة السّفر في إسقاط الرّكعتين السّاقطتين بالقصر‏.‏

10 - الثّالث‏:‏ الغريب‏:‏ وهو أن يعتبر عينه في عين الحكم فترتب الحكم وفق الوصف فقط‏,‏ ولا يعتبر عين الوصف في جنس الحكم ولا عينه‏,‏ ولا جنسه في جنسه بنصّ أو إجماع‏,‏ كالإسكار في تحريم الخمر‏,‏ فإنّه أعتبر عين الإسكار في عين الحكم‏,‏ ويترتّب التّحريم على الإسكار فقط‏.‏

ومن أمثلة المناسب الغريب‏:‏ توريث المبتوتة في مرض الموت إلحاقاً بالقاتل الممنوع من الميراث تعليلاً بالمعارضة بنقيض القصد‏,‏ فإنّ المناسبة ظاهرة‏,‏ ولكن هذا النّوع من المصلحة لم يُعهد اعتباره في غير هذا فكان غريباً‏.‏

والتّفصيل في الملحق الأصوليّ‏.‏

مُنَاسَخة

التّعريف

1 - المناسخة في اللغة‏:‏ مفاعلة من النّسخ وهو النّقل والتّبديل والإزالة‏,‏ يقال‏:‏ نسخت الشّمس الظّلّ‏:‏ إذا أذهبته وحلّت محلّه‏,‏ ونسخت الكتاب نسخاً‏:‏ نقلت صورته المجرّدة إلى كتاب آخر‏,‏ وذلك لا يقتضي إزالة الصورة الأولى‏,‏ بل يقتضي إثبات مثلها في مادّة أخرى‏,‏ والاستنساخ‏:‏ التّقدم بنسخ الشّيء والتّرشّح للنّسخ‏,‏ وقد يعبّر بالنّسخ عن الاستنساخ‏,‏ ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ‏}‏ ونسخ الكتاب‏:‏ إزالة الحكم بحكم يتعقّبه ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا‏}‏‏.‏

وأمّا في الاصطلاح‏,‏ فقد اختلفت عبارات الفقهاء في تعريف المناسخة‏,‏ وهي في الجملة‏:‏ نقل نصيب بعض الورثة بموته قبل القسمة إلى من يرث منه‏.‏

أحوال المناسخة وأحكامها

ذهب الفقهاء في الجملة إلى أنّ للمناسخة أحوالاً ثلاثةً لكلّ منها حكمه‏,‏ قال الحجّاويّ والبهوتي‏:‏ المناسخة ثلاثة أحوال‏:‏

2 - الحال الأوّل‏:‏ أن يكون ورثة الثّاني يرثونه على حسب ميراثهم من الأوّل‏,‏ مثل أن يكونوا عصبةً لهما‏,‏ فاقسم المال بين من بقي منهم‏,‏ ولا تنظر إلى الميّت الأوّل كميّت خلّف أربعة بنين وثلاث بناتٍ‏,‏ ثمّ ماتت بنت ثمّ ابن‏,‏ ثمّ بنت أخرى ثمّ ابن آخر‏,‏ وبقي ابنان وبنت‏.‏ فاقسم المال على خمسة‏.‏

3 - الحال الثّاني‏:‏ أن يكون ما بعد الميّت الأوّل من الموتى لا يرث بعضهم بعضاً‏,‏ كإخوة خلّف كلّ واحد منهم‏,‏ فاجعل مسائلهم كعدد انكسرت عليه سهامهم‏,‏ وصحّح على ما ذكر في باب التّصحيح‏.‏

مثاله‏:‏ رجل خلّف أربعة بنين‏.‏ فمات أحدهم عن ابنين‏,‏ والثّاني عن ثلاثة‏,‏ والثّالث عن أربعة‏,‏ والرّابع عن ستّة‏,‏ فالمسالة الأولى من أربعة‏,‏ ومسألة الابن الأوّل من اثنين‏,‏ والثّاني من ثلاثة‏,‏ والثّالث من أربعة‏,‏ والرّابع من ستّة عدد البنين لكلّ منهم‏.‏

فالحاصل من مسائل الورثة اثنان وثلاثة وأربعة وستّة‏,‏ فالاثنان تدخل في الأربعة والثّلاثة تدخل في السّتّة‏,‏ فأسقط الاثنين والثّلاثة يبقى أربعة وستّة‏,‏ وهما متوافقان‏,‏ فاضرب وفق الأربعة في السّتّة تكن اثني عشر‏,‏ ثمّ تضربها في المسالة الأولى وهي أربعة تكن ثمانيةً وأربعين‏,‏ لورثة كلّ ابن اثنا عشر حاصلة من ضرب واحد في الاثني عشر‏,‏ فلكلّ واحد من ابني الابن الأوّل ستّة‏,‏ ولكلّ واحد من ابني الابن الثّاني أربعة‏,‏ ولكلّ واحد من ابني الابن الثّالث ثلاثة‏,‏ ولكلّ واحد من ابني الابن الرّابع سهمان‏,‏ لأنّ كلّ صنف منهم يختص بتركة مورّثه‏.‏

4 - الحال الثّالث‏:‏ ما عدا ذلك بأن تكون ورثة الثّاني لا يرثونه كالأوّل‏,‏ ويكون ما بعد الميّت الأوّل من الموتى يرث بعضهم بعضاً‏,‏ وهو ثلاثة أقسام‏.‏

القسم الأوّل‏:‏ أن تقسم سهام الميّت الثّاني على مسألته‏.‏ فتصح المسألتان ممّا صحّت منه الأولى‏.‏

كرجل خلّف زوجةً وبنتاً وأخاً لغير أم‏,‏ ثمّ ماتت البنت وخلّفت زوجاً وبنتاً وعماً‏,‏ فإنّ الأوّل من ثمانية‏:‏ للزّوجة واحد وللبنت أربعة وللأخ الباقي ثلاثة‏.‏ ومسألة البنت من أربعة‏:‏ لزوجها واحد ولبنتها اثنان ولعمّها واحد‏.‏ ولها من الأولى أربعة‏,‏ ومسألتها من أربعة فهي منقسمة عليها‏,‏ فتصح المسألتان من ثمانية‏,‏ للزّوجة واحد‏,‏ وللأخ الّذي هو عم في الثّانية أربعة‏,‏ ولزوج الثّانية واحد‏,‏ ولبنتها اثنان‏.‏

القسم الثّاني‏:‏ أن لا تنقسم سهام الثّاني على مسألته بل توافقها‏,‏ فردّ مسألته إلى وفقها‏,‏ واضرب وفق مسألته في كلّ الأولى‏,‏ فما بلغ فهو الجامعة للمسألتين‏,‏ ثمّ كل من له شيء من المسالة الأولى مضروب في وفق الثّانية‏,‏ ومن له شيء من الثّانية مضروب في وفق سهام الميّت الثّاني‏.‏

مثل‏:‏ أن تكون الزّوجة أماً للبنت في مسألتنا المذكورة فإنّ مسألتها تكون من اثني عشر‏,‏ لأنّ فيها نصفاً للبنت‏,‏ وربعاً للزّوج‏,‏ وسدساً للأمّ توافق سهامها من الأولى وهي أربعة بالربع‏,‏ فترجع الاثنا عشر إلى ربعها ثلاثة‏,‏ فاضربها في الأولى - وهي ثمانية - تكن أربعةً وعشرين‏:‏ للمرأة الّتي هي زوجة في الأولى أم في الثّانية سهم من الأولى مضروب في وفق الثّانية‏,‏ وهو ثلاثة بثلاثة‏,‏ ومن الثّانية سهمان في وفق سهام الميّتة باثنين‏.‏ فيكون لها خمسة‏,‏ وللأخ من الأولى ثلاثة في وفق الثّانية ثلاثة بتسعة‏,‏ وله بكونه عماً في الثّانية واحد في واحد بواحد‏.‏ فيجتمع له عشرة‏,‏ ولزوج البنت من الثّانية ثلاثة في واحد بثلاثة‏,‏ ولبنتها منها ستّة في واحد بستّة‏.‏ ومجموع السّهام أربعة وعشرون‏.‏

القسم الثّالث‏:‏ أن لا تنقسم سهام الميّت الثّاني على مسألته ولا توافقها‏.‏ فاضرب المسألة الثّانية في كلّ المسألة الأولى فما حصل فهو الجامعة‏,‏ ثمّ كل من له شيء من الأولى مضروب في الثّانية‏,‏ ومن له شيء من الثّانية مضروب في سهام الميّت الثّاني‏.‏

وذلك كأن تخلّف البنت - الّتي مات أبوها عنها وعن زوجة وأخ - بنتين وزوجاً وأماً‏,‏ فإنّ الأولى من ثمانية وسهام البنت منها أربعة‏,‏ ومسألتها تعول إلى ثلاثة عشر‏:‏ للبنتين ثمانية‏,‏ وللزّوج ثلاثة‏,‏ وللأمّ اثنان‏,‏ والأربعة لا تنقسم عليها ولا توافقها‏,‏ فاضربها في المسألة الأولى تكن الجامعة مائة وأربعة‏:‏ للمرأة الّتي هي أم في الثّانية زوجة في الأولى سهم من الأولى في الثّانية بثلاثة عشر‏,‏ ولها من الثّانية سهمان في سهام الميّتة من الأولى أربعة بثمانية مجتمع لها أحد وعشرون‏,‏ ولأخي الميّت الأوّل ثلاثة من الأولى في الثّانية بتسعة وثلاثين ولا شيء له من الثّانية لاستغراق الفروض المال‏,‏ وللزّوج من الثّانية ثلاثة في سهام الميّتة الأربعة باثني عشر‏,‏ ولبنيها من الثّانية ثمانية في أربعة باثنين وثلاثين‏.‏ ومجموع السّهام مائة وأربعة‏.‏

5 - فإن مات ثالثٌ قبل القسمة جمعت سهامه ممّا صحّت منه الأوليان‏,‏ وعملت فيها عملك في مسألة الثّاني مع الأولى‏,‏ بأن تنظر بين سهامه ومسألته‏,‏ فإن انقسمت عليها لم تحتج لضرب‏,‏ وإلّا فإمّا أن توافق أو تباين‏.‏ فإن وافقت رددت الثّالثة لوفقها وضربته في الجامع‏,‏ وإن باينت ضربت الثّالثة في الجامعة‏,‏ ثمّ من له شيء من الجامعة يأخذه مضروباً في وفق الثّالثة عند التّوافق‏,‏ أو كلّها عند التّباين‏,‏ ومن له شيء من الثّالثة يأخذه مضروباً في وفق سهام مورّثه من الجامعة عند الموافقة أو في كلها عند المباينة‏.‏

مثاله‏:‏ مات عن زوجة وأم وثلاث أخوات مفترقات‏.‏

أصل المسألة من اثني عشر‏,‏ وتعول إلى خمسة عشر‏.‏ ماتت الأخت من الأبوين عن زوجها وأمها وأختها لأبيها وأختها لأمها أصل مسألتها من ستة‏,‏ وتعول إلى ثمانية‏,‏ وسهامها من الأولى ستة متفقان بالنصف‏,‏ فاضرب نصف الثانية أربعة في الأولى تبلغ ستين‏,‏ واقسم على ما تقدم‏:‏ للزوجة من الأولى ثلاثة في أربعة باثني عشر‏,‏ وللأم من الأولى اثنان في أربعة بثمانية ومن الثانية واحد في ثلاثة‏.‏ فيجتمع لها أحد عشر‏,‏ ولأخت الأول لأبيه اثنان في أربعة بثمانية‏,‏ ولها من الثانية ثلاثة في ثلاثة بتسعة‏.‏ يجتمع لها سبعة عشر‏,‏ وللأخت للأم من الأولى اثنان في أربعة بثمانية‏,‏ ومن الثانية واحد في ثلاثة يجتمع لها أحد عشر‏.‏ ولزوج الثانية من الثانية ثلاثة في ثلاثة بتسعة‏.‏

ثم ماتت الأم وخلفت زوجا وأختا وبنتا وهي الأخت لأم‏.‏ فمسألتها من أربعة ولها من الجامعة أحد عشر لا تنقسم ولا توافق‏,‏ فتضرب مسألتها أربعة في الجامعة وهي ستون تبلغ مائتين وأربعين‏.‏ ومنها تصح الثلاث‏,‏ للزوجة من الجامعة اثنا عشر في أربعة بثمانية وأربعين‏.‏ وللأخت لأب سبعة عشر في أربعة بثمانية وستين‏,‏ وللأخت لأم من الجامعة أحد عشر في أربعة بأربعة وأربعين‏,‏ ومن الثالثة اثنان في أحد عشر وهي سهام الثالثة باثنين وعشرين‏.‏ فيجتمع لها ستة وستون‏,‏ ولزوج الثانية تسعة من الجامعة في أربعة بستة وثلاثين‏,‏ ولزوج الثالثة منها واحد في أحد عشر بأحد عشر‏.‏ وكذا أختها‏.‏

6 - وكذلك تصنع في الميت الرابع بأن تعمل له مسألة وتقابل بينها وبين سهامه من الجامعة للثلاث قبلها‏,‏ فإما أن تنقسم أو توافق أو تباين‏,‏ وتتم العمل على ما تقدم‏.‏

7 - وكذا تصنع فيمن مات بعده من خامس أو أكثر بأن تعمل للخامس مسألة وتقابل بينها وبين سهامه من الجامعة للأربع قبلها‏,‏ ثم تعمل للسادس مسألة وتقابل بينها وبين سهامه من التي قبلها‏,‏ وهكذا فتكون الجامعة كالأولى‏.‏ ومسألة الميت كالثانية وتتم العمل على ما تقدم‏.‏

والاختبار بجمع الأنصباء فإن ساوى حاصلها الجامعة فالعمل صحيح وإلا فأعده‏.‏

المسألة المأمونيّة

8 - إذا قيل‏:‏ ميّت مات عن أبوين وبنتين‏,‏ ثمّ لم تقسم التّركة حتّى ماتت إحدى البنتين عمّن في المسألة فقط أو مع زوج‏,‏ أحتيج إلى السؤال عن الميّت الأوّل أذكر هو أم أنثى‏,‏ فإن كان الميّت الأوّل رجلاً فالأب في الأولى جد وارثٌ في الثّانية لأنّه أبو أب‏.‏

وتصح المسألتان من أربعة وخمسين حيث ماتت عمّن في المسألة فقط‏.‏ لأنّ الأولى من ستّة لكلّ من الأبوين سهم‏,‏ ولكلّ من البنتين سهمان‏.‏ والثّانية من ثمانية عشر‏:‏ للجدّة السدس ثلاثة‏,‏ وللجدّ عشرة‏,‏ وللأخت خمسة‏,‏ وسهام الميّت اثنان لا تنقسم على الثّمانية عشر لكن توافقها بالنّصف‏,‏ فردّها لتسعة واضربها في ستّة تبلغ أربعةً وخمسين‏:‏

للأمّ من الأولى واحد في تسعة بتسعة ومن الثّانية ثلاثة في واحد‏,‏ يجتمع لها اثنا عشر‏.‏ وللأب من الأولى واحد في تسعة بتسعة ومن الثّانية عشرة في واحد بعشرة‏,‏ يجتمع له تسعة عشر‏.‏

وللبنت من الأولى سهمان في تسعة بثمانية عشر ومن الثّانية خمسة في واحد‏,‏ ومجموعها ثلاثة وعشرون‏.‏ ومجموع سهام الكلّ أربعة وخمسون‏.‏

وإن كانت الميّت امرأةً فالأب في الأولى أبو أم‏,‏ في الثّانية لا يرث‏,‏ والأخت إمّا أن تكون شقيقةً أو لأمّ‏.‏

وتصح المسألتان من اثني عشر‏,‏ إن كانت لأخت شقيقة‏,‏ لأنّ الأولى من ستّة كما علمت‏,‏ والثّانية من أربعة بالرّدّ‏,‏ للجدّة واحد‏,‏ وللشّقيقة ثلاثة‏,‏ وسهام الميّتة اثنان لا تنقسم على الأربعة لكن توافقها بالنّصف فترد الأربعة لاثنين‏,‏ وتضربها في ستّة باثني عشر ثمّ تقسمها‏,‏ للأب من الأولى واحد في اثنين باثنين ولا شيء له من الثّانية‏.‏ وللبنت من الأولى اثنان في اثنين بأربعة ومن الثّانية ثلاثة في واحد بثلاثة‏,‏ وللأمّ من الأولى واحد في اثنين باثنين‏,‏ ومن الثّانية واحد في واحد فلها ثلاثة‏,‏ ومجموع السّهام اثنا عشر‏.‏

وإن كانت الأخت لأمّ فمسألة الرّدّ من اثنين وسهام الميّتة من الأولى اثنان‏.‏ فتصح المسألتان من السّتّة‏:‏ للأب واحد‏,‏ وللبنت ثلاثة‏,‏ وللجدّة اثنان‏.‏

وهي - أي المسألة المسئُول عنها بأبوين وابنتين لم تقسم التّركة حتّى ماتت إحدى البنتين – ‏"‏ المأمونيّة ‏"‏ لأنّ المأمون سأل عنها يحيى بن أكثم - بالثّاء المثلّثة - لمّا أراد أن يولّيه القضاء‏.‏ فقال له يحيى‏:‏ الميّت الأوّل ذكر أو أنثى ‏؟‏ فعلم أنّه قد فطن لها‏.‏ فقال له‏:‏ إذا عرفت التّفصيل فقد عرفت الجواب‏,‏ وولّاه‏.‏

مَنَاسِك

انظر‏:‏ حجٌّ‏,‏ عمرة‏.‏

مُنَاشَدة

التّعريف

1 - المناشدة في اللغة‏:‏ مأخوذ من نشد‏,‏ والمناشدة‏:‏ المناداة مع رفع الصّوت‏.‏

يقال‏:‏ نشدت الضّالّة‏:‏ رفعت نشيدي‏:‏ أي صوتي بطلبها‏,‏ فأنا ناشد‏,‏ وأنشدتها‏:‏ أي رفعت صوتي بتعريفها‏:‏ فأنا منشد‏,‏ كما يقال‏:‏ نشد بالشّعر ينشده‏:‏ إذا رفع صوته به‏,‏ وناشد المعتدي بالدّعوة إلى التّقوى والكفّ عن الاعتداء عليه بقوله‏:‏ ناشدتك اللّه ونحوه‏.‏

ولا يخرج المعنى الاصطلاحي عن المعنى اللغويّ‏.‏

الأحكام المتعلّقة بالمناشدة

إنشاد اللقطة

2 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ إنشاد اللقطة واجب على الملتقط‏,‏ سواء أراد تملكها أو أراد حفظها لصاحبها‏.‏

وتفصيل ذلك في مصطلح‏:‏ ‏(‏لقطة ف / 7‏,‏ ومصطلح تعريف ف / 7‏)‏‏.‏

إنشاد لقطة غير الحيوان

3 - للقطة غير الحيوان بالنّسبة لإنشادها حالتان‏:‏

إحداهما‏:‏ أن توجد في أرض مملوكة فلا يتعرّض لها‏.‏

والحالة الثّانية‏:‏ أن توجد في أرض غير مملوكة من مسجد‏,‏ أو طريق‏,‏ أو مواتٍ‏,‏ فلا يخلو من أمرين‏:‏ إمّا أن يكون بمكّة أو بغير مكّة‏,‏ فإن كانت بغير مكّة من سائر البلاد‏,‏ فعلى ضربين‏:‏ ظاهر ومدفون‏.‏

فإن كان المال ظاهراً‏:‏ وكان ممّا لا يبقى كالطّعام الرّطب الّذي يفسده الإمساك كالهريسة‏,‏ والفواكه والبقول الّتي لا تبقى على الأيّام‏,‏ فقد حكى المزني عن الشّافعيّ في باب اللقطة أنّه قال في موضع‏:‏ يأكله الواجد‏,‏ وقال في موضع آخر‏:‏ أحببت أن يبيعه‏,‏ فاختلف أصحابه‏,‏ فكان أبو إسحاق المروزيّ وأبو عليّ بن أبي هريرة وطائفة يخرّجون على قولين‏:‏

أحدهما‏:‏ كالشّاة الّتي لمّا تعذّر استبقاؤها أبيح لواجدها أكلها بلا إنشاد‏.‏

والقول الثّاني‏:‏ ليس لواجده أكله‏,‏ بخلاف الشّاة الّتي لا يجب تعريفها فأبيح له أكلها‏,‏ والطّعام وإن كان رطباً يجب إنشاده فلم يستبح أكله‏.‏

فإن قلنا بجواز أكله فأكله صار ضامناً بقيمته‏,‏ وعليه إنشاد الطّعام حولاً‏,‏ وإن قلنا‏:‏ لا يجوز أكله‏,‏ فعليه أن يأتي الحاكم حتّى يأذن له في بيعه‏,‏ ولا يتولّى بيعه بنفسه مع القدرة على الإتيان للحاكم إلّا بعد استئذان الحاكم‏,‏ فإن أعوزه إذن الحاكم جاز بيعه‏,‏ فلو باعه بإذن الحاكم كان الثّمن في يده أمانةً‏,‏ وعليه إنشاد الطّعام حولاً‏,‏ وإن كان الطّعام الرّطب ممّا يمكن إبقاؤه بعلاج‏,‏ كرطب يتجفّف‏,‏ والعنب الّذي يتزبّب‏,‏ فحكمه حكم غير الطّعام في وجوب إنشاده واستبقائه‏.‏

وقال الحنفيّة‏:‏ إن كانت اللقطة شيئاً لا يبقى عرَّفه حتّى إذا خاف أن يفسد تصدّق به‏,‏ وينبغي أن يعرّفها في الموضع الّذي أصابها‏.‏

أمّا إن كان ممّا يبقى كالدّراهم والدّنانير والثّياب والحليّ والقماش‏,‏ فهذه هي اللقطة الّتي قال فيها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ «اعرف عفاصها ووكاءها ثمّ عرّفها سنةً»‏,‏ فعليه أن يأتي بشروط تعريفها‏,‏ ثمّ بعد الحول إن لم يأت صاحبها تملّكها إن أراد ذلك‏.‏

وإن كان المال مدفوناً‏,‏ فضربان‏:‏ جاهليّ وإسلاميّ‏.‏

فإن كان إسلاميّاً فلقطة يجري عليه أحكام اللقطة فينشد‏.‏

وإن كان جاهليّاً فهو ركازٌ‏,‏ ويجب فيه الخمس‏.‏

مدّة الإنشاد

4 - مدّة الإنشاد حول عند جمهور الفقهاء‏,‏ وهو ظاهر الرّواية عند الحنفيّة‏.‏

والقول الآخر عندهم‏:‏ ينشدها إلى أن يظنّ أنّ صاحبها لا يطلبها‏,‏ وليس للإنشاد مدّة محدّدة‏.‏

والتّفصيل في مصطلح ‏(‏لقطة ف / 8‏)‏‏.‏

هذا في غير لقطة الحرم‏,‏ أما لقطة الحرم فقد اختلف الفقهاء‏:‏

ذهب الجمهور إلى أنّ لقطة الحرم كلقطة سائر البلاد في الأحكام‏.‏

وقال الشّافعي رحمه الله‏:‏ إنّه ليس لواجد لقطة مكّة تملكها‏,‏ وينشدها أبداً‏.‏

والتّفصيل في ‏(‏لقطة ف / 14‏)‏‏.‏

أماكن الإنشاد

5 - أماكن الإنشاد هي‏:‏ مجامع النّاس ومحافلهم من البلدان الّتي وجد اللقطة فيها‏,‏ ومحال الرّحال‏,‏ ومناخ الأسفار‏,‏ وفي الأسواق‏.‏

فأمّا الضّواحي الخالية من النّاس فلا يكون الإنشاد فيها تعريفاً‏.‏

وينشدها في أبواب المساجد عند خروج الجماعات‏,‏ أو أقرب البلاد إلى مكان الالتقاط‏,‏ وإن جازت قافلة تبعهم وأنشدها فيهم‏.‏

إنشاد اللقطة في المساجد

6 - يحرم أو يكره على اختلاف بين الفقهاء إنشاد اللقطة في المساجد‏,‏ لخبر‏:‏ «من سمع رجلاً ينشد ضالّةً في المسجد فليقل‏:‏ لا ردّها اللّه عليك»‏.‏

وقال الشّافعيّة‏:‏ لا بأس أن يسأل من في المسجد في غير صورة إنشاد‏.‏

واستثنى الشّافعيّة عن حظر إنشاد اللقطة في المساجد المسجد الحرام‏,‏ وقالوا‏:‏ لا يكره إنشاد اللقطة فيه‏,‏ والحكمة في ذلك أنّ اللّه جلّ شأنه جعل هذا البيت مثابةً للنّاس‏:‏ أي يعودون إليه‏,‏ فربّما يرجع مالكها وإن طال الزّمن‏.‏

إنشاد ضوالّ الحيوان

7 - ضوال الحيوان إن وجدت في صحراء‏:‏ فإن كانت ممّا يصل إلى الماء والرّعي بنفسه‏,‏ ويدفع عن نفسه صغار السّباع بقوّته كالإبل والبقر والخيل والبغال والحمير فلا يجوز التّعرض لها للنّشدان ولا للتّملك‏,‏ لقوله صلى الله عليه وسلم في ضوالّ الإبل‏:‏ «ما لك ولها ‏؟‏ ‏!‏ معها سقاؤها وحذاؤها‏,‏ ترد الماء وتأكل الشّجر حتّى يلقاها ربها»‏.‏

أما إن كانت ممّا لا يدفع عن نفسه صغار السّباع‏,‏ ويعجز عن الوصول إلى الماء والرّعي كالغنم والدّجاج‏,‏ فللواجد أخذه وأكله من غير نشدان‏,‏ وعليه غرمه إذا ظهر مالكه عند جمهور الفقهاء‏.‏

وقال المالكيّة‏:‏ يجوز له أكلها بالصّحراء إذا لم يتيسّر حملها أو سوقها للعمران‏.‏

وفي قول عندهم‏:‏ يجوز له أكلها في الصّحراء ولو مع تيسر سوقها للعمران‏,‏ وإن أتى بها حيّةً للعمران وجب عليه تعريفها‏.‏

والتّفصيل في مصطلح ‏(‏ضالّة ف / 3 - 4 وما بعدها‏)‏‏.‏

الإنشاد بالشّعر

8 - الإنشاد بالشّعر جائزٌ إذا لم يكن في المسجد وخلا عن هجوٍ وإغراق في المدح والكذب المحض والغزل الحرام‏.‏

وتفصيله في مصطلح ‏(‏شعر ف / 7‏)‏‏.‏

مناشدة الظّالم

9 - نصّ المالكيّة على أنّه إذا تعرّض المحارب للمسافر يستحب أن يناشده قبل القتال إذا أمكن‏.‏

والمناشدة هنا أن يدعوه إلى التّقوى والكفّ عن التّعرض له‏.‏

وصيغة المناشدة‏:‏ ناشدتك اللّه إلّا ما خلّيت سبيلي‏,‏ أو‏:‏ اتّق اللّه وكفّ عن الاعتداء والظلم‏,‏ ونحو ذلك من التّذكير والوعظ‏.‏

وقال سحنون‏:‏ لا يناشد المعترض له ولا يدعوه للتّقوى‏,‏ لأنّ الدّعوة للتّقوى والتّذكير لا يزيده إلّا إشلاءً وجرأةً‏.‏

مُنَاصَرة

انظر‏:‏ عاقلة‏.‏

مُنَاضَلة

انظر‏:‏ سباق‏.‏

مُنَاظَرة

التّعريف

1 - المناظرة لغةً‏:‏ يقال‏:‏ ناظر فلاناً‏:‏ صار نظيراً له‏,‏ وناظر فلاناً‏:‏ باحثه وباراه في المجادلة‏,‏ وناظر الشّيء بالشّيء‏:‏ جعله نظيراً له‏.‏

فالمناظرة مأخوذة من النّظير أو من النّظر بالبصيرة‏.‏

والمناظرة اصطلاحاً‏:‏ عرّفها الآمدي بأنّها تردد الكلام بين الشّخصين يقصد كل منهما تصحيح قوله وإبطال قول صاحبه ليظهر الحق‏,‏ وعرّفها الجرجاني بأنّها‏:‏ النّظر بالبصيرة من الجانبين في النّسبة بين الشّيئين إظهاراً للصّواب‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - المُجَادَلة‏:‏

2 - المجادلة لغةً‏:‏ المناظرة والمخاصمة‏,‏ يقال‏:‏ جدل الرّجل جدلاً فهو جدل من باب تعب‏:‏ إذا اشتدّت خصومته‏,‏ وجادل جدالاً ومجادلةً‏:‏ إذا خاصم بما يشغل عن ظهور الحقّ ووضوح الصّواب‏.‏

والمجادلة اصطلاحاً‏:‏ قال الآمدي‏:‏ هي المدافعة لإسكات الخصم‏.‏

والصّلة بينهما أنّ كلاً من المجادلين يريد حفظ مقاله وهدم مقال صاحبه‏,‏ سواء كان حقاً أو باطلاً‏.‏

أما المناظران فكل منهما يريد إظهار الحقّ‏.‏

ب - المُناقَشَة‏:‏

3 - المناقشة لغةً‏:‏ يقال‏:‏ نقش الشّيء نقشاً‏:‏ بحث عنه واستخرجه‏,‏ ويقال‏:‏ نقش الشّوكة بالمنقاش‏,‏ ونقش الحقّ من فلان‏,‏ وناقشه مناقشةً ونقاشاً استقصى في حسابه‏.‏ ولا يخرج المعنى الاصطلاحي عن المعنى اللغويّ‏.‏

والصّلة بين المناقشة والمناظرة أنّ كلاً منهما يهدف إلى بيان وجه الحقّ‏.‏

ج - المُكابَرة‏:‏

4 - المكابرة لغةً‏:‏ المغالبة‏.‏ يقال‏:‏ كابرته مكابرةً‏,‏ غالبته وعاندته‏.‏

والمكابرة اصطلاحاً‏:‏ المنازعة في المسائل العلميّة مع علم المتكلّم بفساد كلامه وصحّة كلام خصمه‏.‏

والصّلة بين المناظرة والمكابرة التّضاد من حيث الغاية والثّمرة‏.‏

د - المُعانَدة‏:‏

5 - المعاندة لغةً‏:‏ من باب ضرب‏,‏ يقال‏:‏ عاند فلان عناداً‏:‏ إذا ركب الخلاف والعصيان‏,‏ وعانده معاندةً‏:‏ عارضه‏,‏ قال الأزهري‏:‏ المعاند المعارض بالخلاف لا بالوفاق‏.‏

والمعاندة اصطلاحاً‏:‏ المنازعة في المسائل العلميّة مع عدم علمه بكلامه هو وكلام صاحبه‏.‏ والصّلة بين المناظرة والمعاندة التّباين‏.‏

هـ - المُحاوَرة‏:‏

6 - المحاورة لغةً‏:‏ يقال‏:‏ حاوره محاورةً وحواراً‏:‏ جاوبه‏,‏ وحاوره‏:‏ جادله‏,‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ‏}‏ ويقال‏:‏ تحاوروا‏:‏ تراجعوا الكلام بينهم وتجادلوا‏,‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا‏}‏‏.‏

ولا يخرج المعنى الاصطلاحي عن المعنى اللغويّ‏.‏

والصّلة بين المحاورة والمناظرة أنّ كلاً منهما يراجع صاحبه في قوله‏.‏

مشروعيّة المناظرة

7 - المناظرة مشروعة بالكتاب والسنّة‏.‏

أمّا الكتاب فمنه المناظرة الّتي تمّت بين إبراهيم عليه السلام عليه السّلام عليه السلام وبين النّمرود الّذي ادّعى الربوبيّة‏,‏ وذلك في قوله تعالى قوله تعالى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِـي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِـي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ‏}‏‏.‏

ومناظرة موسى عليه السلام عليه السّلام عليه السلام مع فرعون وذلك في قوله تعالى قوله تعالى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ، قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إن كُنتُم مُّوقِنِينَ، قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ، قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ، قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ، قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ، قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ، قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُّبِينٍ، قَالَ فَأْتِ بِهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ، فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ، وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاء لِلنَّاظِرِينَ‏}‏‏.‏

وأشار ابن الحنبليّ إلى وجه الدّلالة من ذلك أنّ فرعون لمّا قال‏:‏ ‏{‏وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ‏}‏ علم موسى عليه السلام عليه السّلام عليه السلام أنّه سؤال عن ماهيّة ربّ العالمين‏,‏ ورب العالمين لا ماهيّة له‏,‏ لأنّه الأوّل فلا شيء قبله فيكون منه‏,‏ بل هو مكوّن ما تتكوّن الأشياء منه‏,‏ فلم يشتغل موسى بردّ سؤاله وبيان فساده‏,‏ وكان المقصود تعريف الرّبّ جلّ وعلا بصفته فقال‏:‏ ‏{‏رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا‏}‏ فحصر الكائنات في ثلاث كلماتٍ‏,‏ فلمّا قال‏:‏ ‏{‏أَلَا تَسْتَمِعُونَ‏}‏ قال‏:‏ ‏{‏رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ‏}‏ رداً على فرعون قوله‏:‏

‏{‏أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى‏}‏ فلمّا قال‏:‏ ‏{‏إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ‏}‏ أردف ما ذكر بشاهدين آخرين فقال‏:‏ ‏{‏رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا‏}‏ لأنّ المشرق والمغرب آيتان عظيمتان لا يقدر فرعون على ادّعائهما‏,‏ فلمّا اندحضت حجّته قال‏:‏ ‏{‏لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ‏}‏‏.‏

ودليل ذلك من السنّة‏:‏ مناظرة النّبيّ صلى الله عليه وسلم مع طالب الإذن بالزّنا‏,‏ وذلك فيما ورد عن أبي أمامة قال‏:‏ «إنّ فتىً شاباً أتى النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم فقال‏:‏ يا رسول اللّه‏,‏ ائذن لي بالزّنا‏,‏ فأقبل القوم عليه فزجروه‏,‏ وقالوا‏:‏ مه مه‏,‏ فقال‏:‏ أدنه‏.‏ فدنا منه قريباً‏,‏ قال‏:‏ فجلس‏,‏ قال‏:‏ أتحبه لأمّك ‏؟‏ قال‏:‏ لا واللّه‏,‏ جعلني اللّه فداءك‏.‏ قال‏:‏ ولا النّاس يحبونه لأمّهاتهم‏,‏ قال‏:‏ أفتحبه لابنتك ‏؟‏ قال‏:‏ لا واللّه يا رسول اللّه‏,‏ جعلني اللّه فداءك‏.‏ قال‏:‏ ولا النّاس يحبونه لبناتهم‏.‏ قال‏:‏ أفتحبه لأختك ‏؟‏ قال‏:‏ لا واللّه‏,‏ جعلني اللّه فداءك‏.‏ قال‏:‏ ولا النّاس يحبونه لأخواتهم‏.‏ قال‏:‏ أفتحبه لعمّتك ‏؟‏ قال‏:‏ لا واللّه‏,‏ جعلني اللّه فداءك‏.‏ قال‏:‏ ولا النّاس يحبونه لعمّاتهم‏.‏ قال‏:‏ أفتحبه لخالتك ‏؟‏ قال‏:‏ لا واللّه‏,‏ جعلني اللّه فداءك‏.‏ قال‏:‏ ولا النّاس يحبونه لخالاتهم‏.‏ قال‏:‏ فوضع يده عليه وقال‏:‏ اللّهمّ اغفر ذنبه وطهّر قلبه وحصّن فرجه‏.‏ فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء»‏.‏

الحكم التّكليفي للمناظرة

حكم تعلم فنّ المناظرة

8 - قال الآمدي‏:‏ هذا الفن لا شكّ في استحباب تحصيله‏,‏ وإنّما الشّك في وجوبه وجوباً كفائيّاً‏,‏ فمن قال بوجوب معرفة مجادلات الفرق على الكفاية‏,‏ قال بوجوب التّحصيل‏,‏ لأنّ هذا الفنّ يعرف به كيفيّة المجادلة‏,‏ وإلّا فلا‏.‏

وقال ملّا زاده تعليقاً عليه‏:‏ واعلم أنّه ذهب بعضٌ إلى أنّ معرفة مجادلات الفرق الضّالّة ليجادلهم فرض كفاية لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ‏}‏ ولأنّها دفع الضّرّ عن المسلمين‏,‏ إذ يخاف أن يقعوا في اعتقاداتهم المضرّة‏,‏ وذا فرض كفاية على من لم يكن مظنّة الوقوع فيه‏,‏ وفرض عين على من كان كذلك‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ إنّها حرام لأنّ العلم تابع للمعلوم ما لم يمنع عن التّبعيّة‏.‏

حكم المناظرة في الحالات الّتي تجري فيها

يختلف حكم المناظرة باختلاف الحالات الّتي تجري فيها‏.‏

أوّلاً - الوجوب‏:‏

9 - تكون المناظرة واجبةً في حالات منها‏:‏

- نصرة الحقّ بإقامة الحجج العلميّة والبراهين القاطعة وحلّ المشكلات في الدّين‏,‏ لتندفع الشّبهات وتصفو الاعتقادات عن تمويهات المبتدعين ومعضلات الملحدين‏.‏

- ومع أهل الكتاب إذا ظهرت مصلحة من إسلام من يرجى إسلامه منهم‏.‏ وهي فرض عين‏,‏ إذا لم يوجد سوى عالم واحد وكان أهلاً للمناظرة في الحالات الّتي تجب فيها‏.‏

وتجب كذلك إذا عيّن الحاكم عالماً لمناظرة أهل الباطل وكان أهلاً لذلك‏.‏

وتكون فرض كفاية في حالاتٍ‏:‏ منها إذا كان هناك من أهل العلم غير واحد قادر على المناظرات الواجبة‏,‏ وحينئذٍ فقيام واحد منهم يكفي لسقوط الحرج عن الباقين وإلّا أثم الجميع بتركه‏.‏

ثانياً - النّدب‏:‏

10 - والمناظرة تكون مندوبةً في حالاتٍ منها‏:‏ تأكيد الحقّ وتأييده‏,‏ ومع غير المسلمين الّذين يرجى إسلامهم‏.‏

ثالثاً - الحرمة‏:‏

11 - تكون المناظرة محرّمةً في حالاتٍ منها‏:‏ طمس الحقّ ورفع الباطل‏,‏ وقهر مسلم‏,‏ وإظهار علم‏,‏ ونيل دنيا أو مال أو قبول‏.‏

المناظرة ومناهج استعمال الأدلّة ومناسبة إيرادها

12 - قال صاحب فواتح الرّحموت‏:‏ إنّ المستدلّ إذا بيّن دعواه بدليل‏,‏ فإن خفي على الخصم مفهوم كلامه لإجمال أو غرابة فيما استعمل استفسره‏,‏ وعلى المستدلّ بيان مراده عند الاستفسار‏,‏ وإلّا يبقى مجهولاً فلا تمكن المناظرة‏.‏

ولو كان بلا نقل من لغة أو أهل عرف أو بلا ذكر قرينة فإذا اتّضح مراده‏:‏ فإن كان جميع مقدّماته مسلّمةً ولا خلل فيها بوجه لا تفصيلاً ولا إجمالاً لزم الانقطاع للبحث وظهر الصّواب‏.‏ وإلّا‏,‏ فإن كان الخلل في البعض تفصيلاً يمنع هذا المختل مجرّداً عن السّند أو مقروناً مع السّند‏,‏ ويطالب بالدّليل عليه فيجاب بإثبات المقدّمة الممنوعة‏.‏

وإن كان الخلل فيها إجمالاً‏,‏ وذلك الخلل‏:‏ إمّا أن يتخلّف الحكم عنه في صوره فيكون الدّليل حينئذٍ أعمّ من المدّعي‏,‏ أو لزوم محال آخر فينقض حينئذٍ ويدّعي فساد الدّليل‏,‏ فلا بدّ من إقامة دليل‏.‏

وإمّا بوجود دليل مقابل لدليل المستدلّ وحاكم بمنافي ما يحكم هو به فيعارض‏.‏

وفي هذين أي النّقض والمعارضة تنقلب المناصب‏,‏ فيصير المعترض مستدلاً والمستدل معترضاً‏.‏

فكل بحث - مناظرة - إمّا منع أو نقضٌ أو معارضة‏.‏

وفي ذلك يقول طاش كبرى زاده في منظومته في آداب البحث‏:‏

ثلاثة لسائل مناقضة *** والنّقض ذو الإجمال والمعارضة

فمنعه الصغرى من الدّليل *** أو منعه الكبرى على التّفصيل

والتّفصيل في الملحق الأصوليّ‏.‏

آداب المناظرة

13 - للمناظرة آداب عشرة‏:‏

الأوّل‏:‏ إرادة إظهار الحقّ‏,‏ قال الإمام الشّافعي رحمه الله رحمه اللّه رحمه الله‏:‏ ما ناظرت أحداً إلّا وددت أن يظهر اللّه الحقّ على يديه‏,‏ وجاء في ردّ المحتار‏:‏ المناظرة في العلم لنصرة الحقّ عبادة‏.‏

الثّاني‏:‏ أن يحترز المناظر عن الإيجاز والاختصار والكلام الأجنبيّ لئلّا يكون مخلاً بالفهم‏.‏ الثّالث‏:‏ أن يحترز عن التّطويل في المقال لئلّا يؤدّي إلى الملال‏.‏

الرّابع‏:‏ أن يحترز عن الألفاظ الغريبة في البحث‏.‏

الخامس‏:‏ أن يحترز عن استعمال الألفاظ المحتملة لمعنيين‏.‏

السّادس‏:‏ أن يحترز عن الدخول في كلام الخصم قبل الفهم بتمامه‏,‏ وإن افتقر إلى إعادته ثانياً فلا بأس بالاستفسار عنه إذ الدّاخل في الكلام قبل الفهم أقبح من الاستفسار‏.‏

السّابع‏:‏ أن يحترز عمّا لا مدخل له في المقصود بألّا يلزم البعد عن المقصود‏.‏

الثّامن‏:‏ أن يحترز عن الضّحك ورفع الصّوت والسّفاهة‏,‏ فإنّ الجهّال يسترون بها جهلهم‏.‏ التّاسع‏:‏ أن يحترز عن المناظرة مع من كان مهيباً ومحترماً كالأستاذ إذ مهابة الخصم واحترامه ربّما تزيل دقّة نظر المناظر وحدّة ذهنه‏.‏

العاشر‏:‏ أن يحترز عن أن يحسب الخصم حقيراً لئلّا يصدر عنه كلام يغلب به الخصم عليه‏.‏

أنواع المناظرة

للمناظرة أنواع مختلفة باعتبارات متعدّدة‏:‏

أ - أنواع المناظرة باعتبار وسيلة أدائها‏:‏

المناظرة بهذا الاعتبار نوعان‏:‏

الأوّل‏:‏ المناظرة الخطابيّة‏:‏

14 - وتكون المناظرة الخطابيّة بالتقاء المتناظرين في مجلس علم‏,‏ وكثيراً ما كان يحضر الأمراء هذه المناظرات‏.‏

ومن ذلك المناظرة بين الإمامين مالك وأبي يوسف صاحب أبي حنيفة في المدينة المنوّرة بحضور هارون الرّشيد حول صداق المرأة تصنع به ما تشاء‏.‏

قال القاضي عياضٌ‏:‏ فلمّا تناظر مالك وأبو يوسف في صداق المرأة وقال أبو يوسف‏:‏ لها أن تصنع به ما شاءت‏:‏ إن شاءت رمت به وجاءته في قميصٍ‏,‏ وإن شاءت جعلته في خيط الدّوّامة‏,‏ فقال مالك‏:‏ لو أنّ أمير المؤمنين خطب امرأةً من أهله وأصدقها مائة ألف درهم فجاءته في قميصٍ لم يحكم لها بذلك‏,‏ ولكن يأمرها أن تتجهّز وتتهيّأ له بما يشتهيه ممّا يتجهّز به النّساء‏,‏ فقال هارون‏:‏ أصبت‏.‏

الثّاني‏:‏ المناظرة الكتابيّة‏:‏

15 - وتكون المناظرة الكتابيّة بمخاطبة المتناظرين كتابيّاً حول مسألة علميّة أو أمر يحتاج إلى ذلك‏.‏ ومن ذلك رسالة الإمام مالك إلى الإمام اللّيث بن سعد - رحمهما الله - في مخالفة أهل المدينة‏,‏ وردّ اللّيث على ذلك‏.‏

وفيما يلي نص الرّسالتين‏:‏ من مالك بن أنسٍ إلى اللّيث بن سعد‏.‏ سلام اللّه عليكم‏,‏ فإنّي أحمد اللّه إليك الّذي لا إله إلّا هو‏.‏

أمّا بعد عصمنا اللّه وإيّاك بطاعته في السّرّ والعلانية‏,‏ وعافانا وإيّاك من كلّ مكروهٍ‏.‏

اعلم رحمك اللّه أنّه بلغني أنّك تفتي النّاس بأشياء مخالفة لما عليه جماعة النّاس عندنا وببلدنا الّذي نحن فيه‏,‏ وأنت في إمامتك وفضلك ومنزلتك من أهل بلدك وحاجة من قبلك إليك واعتمادهم على ما جاءهم منك‏,‏ حقيق بأن تخاف على نفسك وتتّبع ما ترجو النّجاة باتّباعه‏,‏ فإنّ اللّه تعالى يقول في كتابه‏:‏ ‏{‏وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ‏}‏ الآية، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فَبَشِّرْ عِبَادِ، الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ‏}‏ فإنّما النّاس تبع لأهل المدينة‏,‏ إليها كانت الهجرة وبها نزل القرآن وأحلّ الحلال وحرّم الحرام إذ رسول اللّه بين أظهرهم يحضرون الوحي والتّنزيل ويأمرهم فيطيعونه ويسن لهم فيتّبعونه‏,‏ حتّى توفّاه اللّه واختار له ما عنده صلوات اللّه عليه وبركاته‏.‏

ثمّ قام من بعده أتبع النّاس له من أمّته ممّن ولي الأمر من بعده‏,‏ فما نزل بهم ممّا علموا أنفذوه‏,‏ وما لم يكن عندهم فيه علم سألوا عنه‏,‏ ثمّ أخذوا بأقوى ما وجدوا في ذلك في اجتهادهم وحداثة عهدهم‏,‏ وإن خالفهم مخالف أو قال امرؤ غيره أقوى منه وأولى ترك قوله وعمل بغيره‏,‏ ثمّ كان التّابعون من بعدهم يسلكون تلك السّبيل ويتّبعون تلك السنن‏.‏

فإذا كان الأمر بالمدينة ظاهراً معمولاً به لم أر لأحد خلافه للّذي في أيديهم من تلك الوراثة الّتي لا يجوز لأحد انتحالها ولا ادّعاؤها‏,‏ ولو ذهب أهل الأمصار يقولون‏:‏ هذا العمل ببلدنا وهذا الّذي مضى عليه من مضى منّا‏,‏ لم يكونوا من ذلك على ثقة‏,‏ ولم يكن لهم من ذلك الّذي جاز لهم‏,‏ فانظر رحمك اللّه فيما كتبت إليك فيه لنفسك‏,‏ واعلم أنّي أرجو أن لا يكون دعائي إلى ما كتبت به إليك إلّا النّصيحة للّه تعالى وحده‏,‏ والنّظر لك والظّنّ بك‏,‏ فأنزل كتابي منك منزلته‏,‏ فإنّك إن فعلت تعلم أنّي لم آلك نصحاً‏,‏ وفّقنا اللّه وإيّاك لطاعته وطاعة رسوله في كلّ أمر وعلى كلّ حال‏,‏ والسّلام عليك ورحمة اللّه‏.‏

وكان من جواب اللّيث عن هذه الرّسالة‏:‏ وأنّه بلغك عنّي أنّي أفتي بأشياء مخالفة لما عليه جماعة النّاس عندكم‏,‏ وإنّه يحق عليّ الخوف على نفسي لاعتماد من قبلي فيما أفتيهم به‏,‏ وأنّ النّاس تبع لأهل المدينة الّتي إليها كانت الهجرة وبها نزل القرآن‏,‏ وقد أصبت بالّذي كتبت من ذلك إن شاء اللّه‏,‏ ووقع منّي بالموقع الّذي لا أكره‏,‏ ولا أشد تفضيلاً منّي لعلم أهل المدينة الّذين مضوا ولا آخذ بفتواهم منّي والحمد للّه‏,‏ وأمّا ما ذكرت من مقام رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بالمدينة ونزول القرآن عليه بين ظهراني أصحابه وما علّمهم اللّه منه‏,‏ وأنّ النّاس صاروا تبعاً لهم فكما ذكرت‏.‏

ب - أنواع المناظرات باعتبار موضوعها‏:‏

16 - تتنوّع المناظرات باعتبار موضوعها إلى أنواع أهمها المناظرات الفقهيّة‏:‏ وهذه المناظرات موضوعها مسائل الفقه وقد تكون بين أتباع مذهب ومذهب وقد تكون بين أتباع المذهب الواحد‏,‏ ومنها على سبيل المثال المناظرة بين الإمامين الشّافعيّ وأحمد في تارك الصّلاة‏,‏ وفيها قال الشّافعي‏:‏ يا أحمد أتقول‏:‏ إنّه يكفر ‏؟‏ قال نعم‏,‏ قال‏:‏ إذا كان كافراً فبم يسلم ‏؟‏ قال‏:‏ يقول‏:‏ لا إله إلّا اللّه محمّد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏,‏ قال الشّافعي‏:‏ فالرّجل مستديم لهذا القول لم يتركه‏,‏ قال‏:‏ يسلم بأن يصلّي‏,‏ قال‏:‏ صلاة الكافر لا تصح ولا يحكم بالإسلام بها‏,‏ فانقطع أحمد وسكت‏.‏

ثمرة المناظرة‏:‏

17 - الأصل في المناظرة - كما هو وارد في تعريفها - التّوصل إلى إظهار الحقّ‏.‏

وهذه المناظرة إمّا أن تنتهي إلى عجز المعلّل وسكوته عن دفع اعتراض السّائل‏,‏ وهذا يسمى إفحاماً‏.‏

وإمّا أن تنتهي إلى عجز السّائل عن الاعتراض على جواب المعلّل إذ لا يمكن جريان البحث بينهما إلى غير نهاية‏,‏ وهذا يسمّى إلزاماً‏.‏

وفي ذلك يقول طاش كبرى زاده في منظومته‏:‏

مآلها البحث عن أمرين *** محقّقاً إحداهما في البين

إمّا بأن قد يعجز المعَلِّل *** وعن إقامة الدّليل يعدل

لمدّعاه وهو عنها ساكت *** وذا هو الإفحام عنهم ثابت

أو يعجز السّائل عن تعرض *** إلى دليل الخصم والمعترض

فينتهي الدّليل مِن مقدّمة *** ضرورة القبول أو مسلّمة

وذلك العجز هو الإلزام *** فتنتهي القدرة والكلام

مُنَافَسة

انظر‏:‏ سباق‏.‏

مَنَافِع

انظر‏:‏ منفعة‏.‏

مُنَاوَلة

التّعريف

1 - المناولة في اللغة تطلق على‏:‏ كلّ ما يعطى باليد‏.‏

يقال‏:‏ ناولت فلاناً الشّيء مناولةً‏:‏ إذا عاطيته‏,‏ وتناولت من يده شيئاً‏:‏ إذا تعاطيته‏,‏ والتّناول‏:‏ أخذ الشّيء باليد‏.‏

ولا يخرج المعنى الاصطلاحي عند الفقهاء عن المعنى اللغويّ‏.‏

وفي اصطلاح علماء مصطلح الحديث‏:‏ المناولة‏:‏ أن يدفع الشّيخ إلى الطّالب أصل سماعه أو فرعاً مقابلاً به‏,‏ ويقول‏:‏ هذا سماعي‏,‏ أو روايتي عن فلان فاروه عنّي‏,‏ أو نحو ذلك‏,‏ كأن يقول‏:‏ أجزت لك روايته عنّي‏,‏ ثمّ يملّكه إيّاه‏,‏ أو يقول‏:‏ خذه وانسخه وقابل به ثمّ ردّه إليّ‏,‏ وهي صيغة استعملها المحدّثون‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - السّماع‏:‏

2 - السّماع مصدر سمع سماعاً وسمعاً وسماعةً‏.‏

والسّمع في اللغة‏:‏ قوّة مودعة في العصب المفروش في مقعد الصّماخ تدرك بها الأصوات‏.‏ وفي اصطلاح أهل الحديث‏:‏ أن يقول الرّاوي في رواية الحديث‏:‏ أخبرنا فلان‏,‏ أو حدّثنا فلان‏,‏ أو سمعت منه‏,‏ ونحو ذلك‏,‏ كذكر لنا فلان‏.‏

والسّماع ممّا تشتمل عليه المناولة‏.‏

ب - الإجازة‏:‏

3 - الإجازة في اللغة‏:‏ من أجاز الأمر‏:‏ نفّذه‏,‏ سوّغه‏.‏

وفي اصطلاح المحدّثين‏:‏ أن يقول الشّيخ للطّالب‏:‏ أجزت لك أن تروي عنّي هذا الحديث بعينه أو هذا الكتاب‏,‏ والإجازة ممّا تشتمل عليها المناولة‏.‏

أوّلاً‏:‏ المناولة عند الأصوليّين والمحدّثين

مشروعيّة المناولة

4 - قال البخاري‏:‏ احتجّ بعض أهل الحجاز في المناولة بحديث النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه «كتب كتاباً لأمير السّريّة وأمره أن لا يقرأه حتّى يبلغ مكان كذا وكذا فلمّا بلغ ذلك المكان قرأه على النّاس وأخبرهم بأمر النّبيّ صلى الله عليه وسلم»‏.‏

قال الزّركشي‏:‏ وأشار البيهقيّ إلى أنّه لا حجّة في ذلك‏.‏

أنواع المناولة

المناولة نوعان‏:‏

5 - أحدهما‏:‏ المناولة المقرونة بالإجازة‏,‏ وهي أعلى أنواع الإجازات على الإطلاق‏,‏ ولها صور‏,‏ منها‏:‏

أن يدفع الشّيخ إلى الطّالب أصل سماعه‏,‏ أو فرعاً مقابلاً به ويقول‏:‏ هذا سماعي من فلان‏,‏ أو روايتي عنه فاروه عنّي‏,‏ أو أجزت لك روايته عنّي‏.‏ ثمّ يملّكه إيّاه‏,‏ أو يقول‏:‏ خذه وانسخه وقابل به ثمّ ردّه إليّ‏,‏ ونحو ذلك‏.‏

6 - الثّاني‏:‏ المناولة المجرّدة عن الإجازة كأن يناول الشّيخ الطّالب الكتاب ويقتصر على قوله‏:‏ هذا من حديثي‏,‏ أو من سماعاتي‏.‏ ولا يقول‏:‏ اروه عنّي‏,‏ أو أجزت لك روايته عنّي‏.‏ قال ابن الصّلاح والنّووي‏:‏ لا يجوز الرّواية بها على الصّحيح عند الأصوليّين والفقهاء‏.‏

وقال ابن الصّلاح‏:‏ هذه مناولة مختلّة‏,‏ ولا يجوز الرّواية بها‏.‏ وعابها بعض الفقهاء الأصوليّين على المحدّثين الّذين أجازوها وسوّغوا الرّواية بها‏,‏ وحكى الخطيب عن طائفة من أهل العلم أنّهم صحّحوها وأجازوا روايةً بها‏.‏

وينظر التّفصيل في الملحق الأصوليّ‏.‏

ثانياً‏:‏ المناولة عند الفقهاء

حصول قبض المعقود عليه بالمناولة

7 - يكون قبض المنقولات الّتي تتناول باليد عادةً - كالمجوهرات والحليّ والنقود والثّياب وما إلى ذلك - بمناولة أحد العاقدين للآخر المعقود عليه‏,‏ وتناول الآخر منه‏,‏ أو إذنه له بالتّناول‏,‏ أو وضعه قريباً منه بحيث يمكن له تناوله وهو في مكانه باليد‏.‏

وقال الحنفيّة‏:‏ يحصل قبض سائر المنقولات أيضاً بالمناولة‏,‏ كما يحصل بنقله أو تحويله من مكان العقد‏.‏

والتّفصيل في مصطلح ‏(‏قبضٌ ف / 9‏)‏‏.‏

مِنْبَر

التّعريف

1 - المنبر في اللغة‏:‏ مرقاة يرتقيها الخطيب أو الواعظ ليخاطب الجمع، مشتق من النّبر وهو الارتفاع، وسمّي منبراً لارتفاعه وعلوّه، ويقال‏:‏ انتبر الخطيب أي‏:‏ ارتقى المنبر‏.‏ ولا يخرج المعنى الاصطلاحي عن المعنى اللغويّ‏.‏

منبر النّبيّ صلى الله عليه وسلم

2 - قال العلماء‏:‏ إنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم اتّخذ منبره سنة سبع من الهجرة وقيل‏:‏ ثمان من الهجرة‏.‏

والأصل في ذلك ما رواه سهل بن سعد رضي الله عنه «أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أرسل إلى امرأة من الأنصار‏:‏ مري غلامك النّجّار أن يعمل لي أعواداً أجلس عليهنّ إذا كلّمت النّاس»، يقول البهوتيّ‏:‏ وفي الصّحيح «أنّه عمل من أثل الغابة، فكان يرتقي عليه»‏.‏ قال‏:‏ وكان ثلاث درج، «وكان النّبي صلى الله عليه وسلم يجلس على الدّرجة الثّالثة الّتي تلي مكان الاستراحة»، ثمّ وقف أبو بكر رضي الله تعالى عنه على الثّانية، ثمّ عمر رضي الله تعالى عنه على الأولى تأدباً، ثمّ وقف عثمان رضي الله عنه مكان أبي بكر رضي اللّه عنه، ثمّ عليّ رضي الله تعالى عنه موقف النّبيّ صلى الله عليه وسلم، ثمّ قلعه مروان بن الحكم أمير المدينة في زمن معاوية وزاد فيه ستّ درج، فكان الخلفاء يرتقون ستاً، ويقفون مكان عمر رضي الله عنه، أي‏:‏ على السّابعة ولا يتجاوزون ذلك تأدباً‏.‏

الأحكام المتعلّقة بالمنبر

أ - اتّخاذ المنبر وموقعه‏:‏

3 - ذهب الفقهاء إلى أنّ اتّخاذ المنبر سنّة مجمع عليها، كما أنّه يسن أن تكون الخطبة على المنبر، وكذلك الجلوس على المنبر قبل الشّروع في الخطبة‏.‏

ويستحب أن يكون المنبر على يمين المحراب بالنّسبة للمصلّين‏.‏

وزاد الشّافعيّة فقالوا‏:‏ ويكره المنبر الكبير جداً الّذي يضيق على المصلّين إذا لم يكن المسجد متّسعاً‏.‏

والتّفصيل في ‏(‏خطبة ف / 10‏)‏‏.‏

ب - تسليم الخطيب على النّاس إذا صعد المنبر‏:‏

4 - ذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه يستحب للخطيب إذا صعد المنبر فاستقبل الحاضرين أن يسلّم عليهم، واحتجوا بما رواه جابر رضي الله عنه قال‏:‏ «كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إذا صعد المنبر سلّم»، ورواه الأثرم عن أبي بكر وعمر وابن مسعود والزبير رضي الله عنهم، ورواه البخاري عن عثمان رضي الله عنه، وفعله عمر بن عبد العزيز، وبه قال الأوزاعي، ولأنّه استقبال بعد استدبار، فأشبه من فارق قوماً ثمّ عاد إليهم‏.‏ وأضاف الشّافعيّة أن يسلّم على من عند المنبر ندباً إذا انتهى إليه‏.‏

وذهب الحنفيّة إلى أنّه لا يسن السّلام بعد الصعود على المنبر‏.‏

وقال المالكيّة‏:‏ يندب أن يسلمّ الخطيب عند خروجه ليرقى المنبر، فإذا انتهى من صعوده فلا يندب بل يكره، ولا يجب رده لأنّ المعدوم شرعاً كالمعدوم حساً، خلافاً للقرافيّ الّذي أوجب ردّه‏.‏

ج - نزول الإمام عن المنبر للحاجة‏:‏

5 - نصّ الشّافعيّة على أنّه لا بأس أن ينزل الإمام عن المنبر للحاجة قبل أن يتكلّم ثمّ يعود إليه‏.‏

واستدلوا بما ورد‏:‏ «أنّه لمّا وضع المنبر وضعوه موضعه الّذي هو فيه، فلمّا أراد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أن يقوم إلى المنبر مرّ إلى الجذع الّذي كان يخطب إليه، فلمّا جاوز الجذع خار حتّى تصدّع وانشقّ، فنزل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لمّا سمع صوت الجذع فمسحه بيده حتّى سكن، ثمّ رجع إلى المنبر»، وفي حديث‏:‏ «فاعتنقها فسكتت»‏.‏

قال الشّافعي‏:‏ وإن نزل عن المنبر بعد ما تكلّم استأنف الخطبة، لأنّ الخطبة لا تعد خطبةً إذا فصل بينها بنزول يطول، أو بشيء يكون قاطعاً لها‏.‏

د - صلاة ركعتين عند منبر النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏

6 - نصّ بعض الفقهاء على أنّ زائر قبر النّبيّ صلى الله عليه وسلم يصلّي تحيّة المسجد عند منبر النّبيّ صلى الله عليه وسلم ركعتين يقف بحيث يكون عمود المنبر بحذاء منكبه الأيمن إن أمكنه، وهو موقفه عليه الصلاة والسلام قبل أن يغيّر المسجد، وهو بين قبره ومنبره، ويجتهد أن يحيي ليله مدّة مقامه بقراءة القرآن وذكر اللّه والدعاء عند المنبر وبينهما سراً وجهراً لحديث‏:‏ «ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنّة»‏.‏

ويقف عند المنبر ويدعو‏.‏

ففي الحديث‏:‏ «قوائم منبري رواتب في الجنّة» وفي رواية‏:‏ «منبري على ترعة من ترع الجنّة»، وكان السّلف يستحبون أن يضع أحدهم يده على رمّانة المنبر النّبويّ الّتي كان النّبي عليه الصلاة والسلام يضع يده الكريمة عليها عند الخطبة‏.‏

هـ - الدعاء على المنبر والتّأمين عليه‏:‏

7 - نصّ بعض الفقهاء على أنّه إذا دعا المذكّر على المنبر دعاءً مأثوراً، والقوم يدعون معه ذلك، فإن كان لتعليم القوم فلا بأس به، وإن لم يكن لتعليم القوم فهو مكروه‏.‏

و - إخراج المنبر إلى الجبّانة وبناؤه‏:‏

8 - نصّ الحنفيّة على أنّه لا يخرج المنبر إلى الجبانة ‏"‏ المصلّى العامّ في الصّحراء ‏"‏، لما ورد أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك، وقد صحّ «أنّه صلى الله عليه وسلم خطب يوم النّحر على ناقته» وبه جرى التّوارث من لدن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم إلى يومنا هذا، وقد عاب النّاس على مروان بن الحكم إخراجه المنبر في العيدين، ونسبوه إلى خلاف السنّة‏.‏

وأمّا بناء المنبر في الجبّانة فذهب الحنفيّة في الصّحيح من المذهب والمالكيّة في قول إلى الجواز‏.‏

قال الحنفيّة‏:‏ ولهذا اتّخذوا في المصلّى منبراً على حدة من اللّبن والطّين، واتّباع ما اشتهر به العمل في النّاس واجب‏.‏

وفي قول عند بعض الحنفيّة كراهة بناء المنبر في الجبّانة ‏"‏ المصلّى العامّ في الصّحراء ‏"‏‏.‏

ز - تغليظ اليمين عند المنبر‏:‏

9 - يرى المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة مشروعيّة تغليظ الأيمان بالمكان، ومنه‏:‏ عند المنبر، إلّا أنّ المالكيّة يرون وجوبه، ويرى الشّافعيّة استحبابه، كما يرى الحنابلة أنّه إذا رأى الحاكم تغليظها بالمكان عند منبر الجامع في كلّ مدينة جاز ولم يستحبّ، لما روي عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من حلف على منبري هذا على يمين آثمة فليتبوّأ مقعده من النّار»‏.‏

أمّا الحنفيّة فلا يرون التّغليظ لا بالمكان ولا بالزّمان‏.‏

‏(‏ر‏:‏ مصطلح تغليظ ف / 6‏)‏‏.‏

المِنْبَريَّة

التّعريف

1 - المنبريّة نسبةً إلى المنبر وهو معروف، وهي مسألة من المسائل الملقّبات في المواريث، وهي المسائل الّتي لقّبت كل منها بلقب أو أكثر‏:‏ كالأكدريّة والدّيناريّة وغيرهما‏.‏

صورة المسألة وحكمها

2 - المنبريّة مسألة من مسائل العول، وصورتها‏:‏ أن يترك الميّت زوجةً وبنتين وأبوين، وقد سئل عنها علي بن أبي طالب كرّم اللّه وجهه وهو على المنبر فأجاب عنها أثناء خطبته قائلاً‏:‏ صار ثمنها تسعاً‏.‏ ومضى في خطبته‏.‏

والمسألة أصلها من /24 /‏:‏ للزّوجة الثّمن / 3 /، وللبنتين الثلثان / 16 /، ولكلّ من الأبوين السدس / 4 /‏.‏ فتعول المسألة إلى / 27 / بدلاً من / 24 /، فيكون نصيب الزّوجة ثلاثة أسهم من / 27 /، وهو يمثّل التسع من المسألة بعد العول، وهذا يفسّر قول علي رضي الله عنه صار ثمنها تسعاً‏.‏

مَنْبوذ

التّعريف

1 - المنبوذ لغةً‏:‏ اسم مفعول لفعل نبذ، يقال‏:‏ نبذته نبذاً، من باب ضرب‏:‏ ألقيته فهو منبوذ، أي مطروح، ومنه سُمّي النّبيذ‏:‏ نبيذاً، لأنّه يُنبذ، أي‏:‏ يترك حتّى يشتدّ‏.‏

ومنه نَقْضُ العهد يقال‏:‏ نبذتُ العهد إليهم‏:‏ نقضته‏.‏

ويقال‏:‏ نبذت الأمر‏:‏ أهملته، والمنبوذ‏:‏ ولد الزّنا، والصّبي تلقيه أمه في الطّريق‏.‏ والمنبوذ شرعاً‏:‏ اسم لحيّ مولود طرحه أهله خوفاً من العيلة أو فراراً من تهمة الرّيبة، أو هو طفل منبوذ بنحو شارع لا يعرف له مدّع‏.‏

وذكر الطّفل للغالب، فالمجنون يلتقط كما يلتقط المميّز في الأصحّ عند الشّافعيّة، لاحتياجهما إلى التّعهد‏.‏

حكم التقاط المنبوذ

2 - الأصل في مشروعيّة التقاط المنبوذ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً‏}‏، وقوله عزّ من قائل‏:‏ ‏{‏وَافْعَلُوا الْخَيْرَ‏}‏، والتقاط المنبوذ وإنقاذه من المهالك من أهمّ فعل الخيرات‏.‏

وقد اختلف الفقهاء في حكم التقاط المنبوذ‏.‏

وتفصيل ذلك في ‏(‏مصطلح لقيطٌ ف / 4‏)‏‏.‏

الإشهاد على التقاط المنبوذ

3 - اختلف الفقهاء في حكم الإشهاد على التقاط المنبوذ‏.‏

وتفصيل ذلك في ‏(‏مصطلح لقيطٌ ف / 5‏)‏‏.‏

من له ولاية الالتقاط

4 - تثبت ولاية الالتقاط لحرٍّ مكلّف ولو فقيراً - لأنّ السّعي لقوته لا يشغله عن حفظه - مسلم إن حكم بإسلام المنبوذ، ظاهر العدالة فيشمل مستور العدالة الّذي لا يعرف منه حقيقة العدالة ولا الخيانة، على اختلاف بين الفقهاء‏.‏

وتفصيل ذلك في ‏(‏مصطلح لقيطٌ ف / 6، 7‏)‏‏.‏

ازدحام اثنين فأكثر على التقاط المنبوذ

5 - لو ازدحم اثنان كل منهما أهل للالتقاط على التقاط المنبوذ، وذلك بأن يقول كل منهما‏:‏ أنا آخذه، جعله الحاكم عند من يراه منهما، أو عند من يراه من غيرهما، لأنّه لا حقّ لهما قبل أخذه فيفعل الأحظّ له‏.‏

وإن سبق أحدهما فالتقطه مُنِعَ الآخر من مزاحمته، لثبوت حقّه بالسّبق لقوله صلّى اللّه عليه وسلّم‏:‏ «من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو له»‏.‏

وإن التقطاه في زمن واحد - وهما أهل التقاطه - فالأصح عند الشّافعيّة يقدّم غنيّ على فقير، لأنّه قد يواسيه بماله‏.‏ ولو تفاوتا في الغنى لم يقدّم أغناهما‏.‏

فإن كان أحدهما بخيلاً والآخر جواداً، فقياس تقديم الغنيّ على الفقير يقتضي أن يقدّم الجواد، لأنّ حفظ اللّقيط عنده أكثر، ويقدّم عدل على مستور، وإن تساويا في العدالة والحرّيّة والغنى أقرع بينهما‏.‏

فإن ازدحم على أخذ المنبوذ ببلد، أو قرية، ظاعن إلى بادية أو قرية وآخرُ مقيمٌ في البلد‏:‏ فالمقيم بالبلد أولى بأخذه وحضانته، لأنّه أرفق به وأحوط لنسبه، ولا يقدّم المقيم على ظاعن إلى بلد آخر، بل يستويان بناءً على أنّه يجوز للمنفرد بحضانته نقله إلى بلده‏.‏ واختار النّووي تقديم قروي مقيم بالقرية الّتي وجد المنبوذ فيها على بلدي ظاعن إلى بلد آخر، ويقدّم حضريّ على بدوي، إذا وجداه بمهلكة‏.‏

والتّفصيل في ‏(‏لقيطٌ ف / 8‏)‏‏.‏

ويستويان إذا وجداه بمحلّة أو قبيلة، ويقدّم البصير على الأعمى، والسّليم على المجذوم والأبرص إذا قلنا بأهليّتهما للالتقاط‏.‏

وإذا وجد اللّقيط في بلد فلا يجوز نقله إلى بادية، سواء كان الملتقط بلديّاً أو بدويّاً أو قرويّاً، لخشونة عيش البادية، وتفويت تعلم الدّين والعلم والصّنعة، وضياع النّسب‏.‏

كما يمتنع نقله من بلد إلى قرية‏.‏

والتّفصيل في مصطلح ‏(‏لقيط ف / 8‏)‏ وما بعدها‏.‏

الحكم بإسلام المنبوذ أو كفره

6 - لا يخلو المنبوذ من أن يوجد في دار الإسلام أو في دار الكفر‏.‏

فأمّا دار الإسلام فضربان‏:‏

أحدهما‏:‏ دار اختطّها المسلمون فلقيط هذه محكوم بإسلامه - وإن كان فيها معهم أهل ذمّة أو معاهدون - تغليباً للإسلام ولظاهر الدّار، ولأنّ الإسلام يعلو ولا يعلى عليه‏.‏

الثّاني‏:‏ دار فتحها المسلمون فهذه إن كان فيها مسلم واحد حكم بإسلام لقيطها، لأنّه يحتمل أن يكون لذلك المسلم تغليباً للإسلام‏.‏

وإن لم يكن فيها مسلم، بل كل أهلها أهل ذمّة حكم بكفره، لأنّ تغليب حكم الإسلام إنّما يكون مع الاحتمال، ولا احتمال هنا‏.‏

أمّا بلد الكفّار‏:‏ فإن كان بلداً للمسلمين فغلب الكفّار عليه فهو كالأوّل‏:‏ إن كان فيه مسلم واحد حكم بإسلامه، وإن لم يكن فيه فهو كافر‏.‏

وإن وجد في دار لم تكن للمسلمين أصلاً فإن لم يكن فيها مسلم فمنبوذه كافر‏.‏

والتّفصيل في مصطلح ‏(‏لقيطٌ ف / 10‏)‏‏.‏

وإن وجد المنبوذ ببرّيّة فمسلم إذا كانت برّيّة دارنا، أو كانت برّيّةً لا يد لأحد عليها‏.‏

أمّا برّيّة دار الحرب الّتي لا يطرقها مسلم فلا يحكم بإسلام منبوذها‏.‏

ومن حكم بإسلامه بالدّار كان مسلماً باطناً أيضاً إن لم يكن ثمّ ذمّيّ، فإذا بلغ وأفصح بالكفر كان مرتداً‏.‏

وإن كان ثَمّ ذمّيّ كان مسلماً ظاهراً، فإن بلغ وأفصح كفراً فهو كافر أصليّ لضعف الدّار‏.‏ وإن أقام ذمّيّ أو حربيّ بيّنةً على نسب المنبوذ لحقه، لأنّه كالمسلم في النّسب، وتبعه بالكفر، وارتفع ما ظننّاه من إسلامه، لأنّ الدّار حكم باليد، والبيّنة أقوى من مجرّد يد‏.‏ وتصور علوقه من مسلمة وطئت بشبهة نادر لا يعوّل عليه مع البيّنة، وتشمل البيّنة محض النّسوة‏.‏

وإن ألحقه قائف قال ابن حجر الهيتمي‏:‏ الّذي يتّجه اعتبار إلحاقه، لأنّه حكم فهو كالبيّنة بل أقوى‏.‏

وفي النّسوة‏:‏ أنّه إن ثبت بهنّ النّسب تبعه بالكفر، وإلّا فلا‏.‏

وإن اقتصر على الدّعوى بأنّه ابنه ولا حجّة له، فالمذهب عند الشّافعيّة‏:‏ أنّه لا يتبعه بالكفر وإن لحقه نسبه، لأنّ الحكم بإسلامه لا يغيّر بمجرّد دعوى كافر مع إمكان تلك الشّبهة النّادرة، ومحل هذا الخلاف إن لم يصدر منه نحو صلاة، وإلّا - بأن يصدر منه ما يدل على أنّه مسلم كالصّلاة والصّوم - لم يغيّر ادّعاء الكافر نسبه شيئاً عن حكم الإسلام بالدّار، وتقوى بالصّلاة ونحوها قطعاً، ويحال بينهما وجوباً‏.‏

ومقتضى حكمهم بإسلام المنبوذ تارةً وكفره تارةً أخرى‏:‏ أنّ لقاض رفع إليه أمر منبوذٍ الحكم بكفره فيما نصوا على كفره فيه‏.‏

وقال ابن حجر الهيتمي‏:‏ ولا معنى لما قال بعضهم من أنّه لا يجوز لقاض أن يحكم بكفر أحد، لأنّ الحكم بالكفر رضاً به، والرّضا بالكفر كفر‏.‏

استلحاق المنبوذ

7 - إن استلحق المنبوذ المحكوم بإسلامه من هو أهل للالتقاط، بأن يكون حراً ذكراً مسلماً لحقه بشروط الاستلحاق‏.‏

وتفصيل ذلك في ‏(‏استلحاق ف / 11 - 14‏)‏‏.‏

رق المنبوذ وحرّيّته

8 - المنبوذ حر في قول عامّة أهل العلم‏.‏

وقال ابن المنذر‏:‏ أجمع عامّة أهل العلم على أنّ اللّقيط حر، وروي عن عمر وعلي رضي الله عنهما، وبه قال عمر بن عبد العزيز والشّعبي وحمّاد ومالك والشّافعي والحنفيّة، لأنّ الأصل في الآدميّين الحرّيّة، فإنّ اللّه تعالى خلق آدم وذرّيّته أحراراً، وإنّ الرّقّ للعارض، فإن لم يعلم ذلك العارض فله حكم الأصل، هذا إذا لم يقم أحد بيّنةً برقّه، وتتعرّض لأسباب الملك فيعمل بها‏.‏

وإن أقرّ المنبوذ المكلّف بالرّقّ لشخص فصدّقه قبل إن لم يسبق منه إقرار بحرّيّة كسائر الأقارير‏.‏ فإن كذّبه المقر له لا يثبت الرّق، وكذا إن سبق إقرار بحرّيّة فلا يقبل إقراره بعده، لأنّه بالإقرار الأوّل التزم أحكام الأحرار فلا يملك إسقاطها‏.‏

ولا يشترط في صحّة الإقرار بالرّقّ ألّا يسبقه تصرف يقتضي نفوذه حرّيّة كبيع ونكاح، بل يقبل إقراره في أصل الرّقّ وأحكامه الماضية المضرّة به والمستقبلة فيها له، لا في الأحكام الماضية المضرّة بغيره، فلا يقبل إقراره بالنّسبة إليها، كما لا يقبل الإقرار على الغير بدين، فلو لزمه دين فأقرّ برقّ وفي يده مال قضى منه، ثمّ إن فضل شيء فللمقرّ له‏.‏

ادّعاء رقّ المنبوذ مَنْ ليس بيده

9 - إن ادّعى رقّ المنبوذ من ليس في يده بلا بيّنة لم يقبل بلا خلاف، لأنّ الأصل والظّاهر الحرّيّة فلا تترك بلا حجّة، بخلاف النّسب لما فيه من الاحتياط والمصلحة‏.‏ وكذا إن ادّعاه الملتقط كما ذكر، ويجب انتزاعه منه لخروجه بدعوى الرّقّ عن الأمانة، وقد يسترقه فيما بعد، قاله الماورديّ وأيّده الأذرعي‏.‏

وخالف الزّركشي تعليل الماورديّ وقال‏:‏ لم يتحقّق كذبه حتّى يخرج عن الأمانة‏.‏ وقال ابن حجر الهيتمي‏:‏ إنّ اتّهامه صيّره كغير الأمين، لأنّ يده صارت مظنّة الإضرار بالمنبوذ‏.‏

نفقة المنبوذ

10 - نفقة المنبوذ تكون من ماله إن وجد معه مال، أو كان مستحقاً في مال عام، كالأموال الموقوفة على اللقطاء أو الموصى بها لهم‏.‏

وينظر تفصيل ذلك في ‏(‏مصطلح لقيط ف / 15، 16‏)‏‏.‏

جناية المنبوذ والجناية عليه‏:‏

11 - اختلف الفقهاء في جناية المنبوذ والجناية عليه‏.‏

وينظر تفصيل ذلك في مصطلح ‏(‏لقيط ف / 17، 18‏)‏‏.‏

مُنْتَقِل

التّعريف

1 - المنتقل في اللغة‏:‏ اسم فاعل من الفعل ‏"‏ انتقل ‏"‏، والانتقال‏:‏ التّحول‏.‏

ولا يخرج المعنى الاصطلاحي عن المعنى اللغويّ‏.‏

ويختص البحث هنا بتحول الكافر من دين إلى دين، أمّا الانتقال من مكان إلى مكان فينظر في مصطلح ‏(‏تحول ف / 7 - 9‏)‏‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

المرتد‏:‏

2 - من معاني المرتدّ في اللغة الرّاجع عن الشّيء، والرّدّة الرجوع عن الشّيء إلى غيره‏.‏ والمرتد شرعاً‏:‏ هو الرّاجع عن دين الإسلام‏.‏

والعلاقة بين المنتقل والمرتدّ أنّ كلاً منهما خرج عن دينه، إلّا أنّ المرتدّ خرج من دين الحقّ إلى الباطل، والمنتقل خرج من الباطل إلى الباطل‏.‏

الأحكام المتعلّقة بالمنتقل

الدّين الّذي يُقَرّ عليه المنتقل

3 - اختلف الفقهاء في الدّين الّذي يقر عليه المنتقل إلى عدّة آراء‏:‏

ذهب الحنفيّة والمالكيّة إلى أنّه تقبل الجزية من كتابي ومجوسي، ووثني عجمي‏.‏

كما ذهبوا إلى أنّه إذا انتقل واحد منهم من دينه إلى دين آخر غير الإسلام، فإنّه لا يجبر على العود للدّين الّذي كان عليه، لأنّ الكفر كلّه ملّة واحدة‏.‏

وحكى القاضي أبو بكر المالكي روايةً‏:‏ أنّ المنتقل يقتل لخروجه عن العهد الّذي انعقد له إلّا أن يسلم‏.‏

وذهب الشّافعيّة في الأظهر والحنابلة في إحدى الرّوايتين - اقتصر عليها البهوتيّ - إلى أنّه إذا انتقل كتابيّ إلى دين آخر من أهل الكتاب كاليهوديّ يتنصّر أو النّصرانيّ يتهوّد لم يقرّ بالجزية لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ‏}‏، وقد أحدث ديناً باطلاً بعد اعترافه ببطلانه فلا يقر عليه‏.‏

قال الخطيب من الشّافعيّة‏:‏ محل عدم قبول غير الإسلام فيما بعد عقد الجزية كما بحثه الزّركشي، أمّا لو تهوّد نصرانيّ بدار الحرب ثمّ جاءنا وقبل الجزية فإنّه يقر لمصلحة قبولها‏.‏

ومقابل الأظهر عند الشّافعيّة والرّواية الثّانية للحنابلة - نصّ عليه أحمد وهو ظاهر كلام الخرقيّ واختيار الخلّال - أنّه يقر على الدّين الّذي انتقل إليه لأنّه لم يخرج عن دين أهل الكتاب، ولتساويهما في التّقرير بالجزية وكل منهما خلاف الحقّ‏.‏

وفي قول عند الشّافعيّة‏:‏ يقبل منه الإسلام أو دينه الأوّل لأنّه كان مقراً عليه‏.‏

وصرّح الحنابلة والشّافعيّة بأنّه إذا انتقل الكتابي إلى غير دين أهل الكتاب كما لو توثّن يهوديّ أو نصرانيّ لم يقرّ بالجزية قطعاً‏.‏

وفيما يقبل منه قولان عند الشّافعيّة‏:‏ أظهرهما الإسلام‏.‏ والثّاني‏:‏ هو أو دينه الأوّل‏.‏ وانفرد المحلّي - في شرح المنهاج - بإضافة قول ثالث في هذه المسألة وهو أنّه يقر على مساويه‏.‏

ونصّ الشّافعيّة على أنّه لو تهوّد وثنيّ أو تنصّر لم يقرّ بالجزية ويتعيّن الإسلام في حقّه لانتقاله عمّا لا يقر عليه إلى باطل والباطل لا يفيد الإقرار‏.‏

وقال الحنابلة‏:‏ إذا انتقل مجوسيّ إلى دين لا يقر أهله عليه لم يقرّ كأهل ذلك الدّين‏.‏ وإنّ انتقل إلى دين أهل الكتاب، خرج فيه الرّوايتان‏:‏

إحداهما‏:‏ لا يقر‏.‏

والثّانية‏:‏ يقر عليه‏.‏

نكاح المنتقل

اختلف الفقهاء في حكم نكاح اليهوديّة إذا تنصّرت والنصرانية إذا تهوّدت والمجوسيّة إذا تهوّدت أو تنصّرت‏.‏

وتوضيح ذلك فيما يلي‏:‏

أ - نكاح المسلم للمنتقلة‏:‏

4 - اختلف الفقهاء في حكم نكاح المسلم للمنتقلة‏:‏

فذهب الجمهور إلى أنّه يجوز للمسلم نكاح المنتقلة إلى اليهوديّة أو النّصرانيّة دون المجوسيّة، لأنّ الكفر كلّه ملّة واحدة، ولأنّ المنتقلة تقر على ما انتقلت إليه، ولعموم قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ‏}‏‏.‏

وذهب الشّافعيّة في الأصحّ والحنابلة إلى أنّه لا يجوز للمسلم نكاح المنتقلة من اليهوديّة إلى النّصرانيّة أو العكس وإن كانت منكوحة مسلم فإنَّ تهودها أو تنصرها كردّة مسلمة تحته فتنجّز الفرقة في الحال ولا مهر لها لأنّ الفسخ من قبلها وذلك إذا كان قبل الدخول، وإن كان بعد الدخول وقف نكاحها على انقضاء العدّة فإن أسلمت قبل انقضاء العدّة أو عادت إلى دينها الأوّل عند الشّافعيّة في قول دام النّكاح، وإلّا بان حصول الفرقة من وقت الانتقال، وهو إحدى الرّوايتين عند الحنابلة، وفي رواية أخرى ينفسخ في الحال‏.‏

ب - انتقال أحد الزّوجين الذّمّيّين إلى غير دين الإسلام‏:‏

5 - إذا انتقل أحد الزّوجين الذّمّيّين إلى دين كفر آخر فيرى الحنفيّة أنّهما على نكاحهما‏.‏ قال ابن عابدين‏:‏ النّصرانيّة إذا تهوّدت أو عكسه لا يلتفت إليهم لأنّ الكفر كلّه ملّة واحدة وكذا لو تمجّست زوجة النّصرانيّ فهما على نكاحهما كما لو كانت مجوسيّةً في الابتداء، والمراد بالمجوسيّ من ليس له كتاب سماويّ فيشمل الوثنيّ والدّهريّ‏.‏

وهذا ما تقتضيه عبارات فقهاء المالكيّة حيث يصرّحون بفساد أنكحة الكفّار‏.‏

ويرى الشّافعيّة أنّ المنتقلة إن كانت منكوحة كافر لا يرى حلّ المنتقلة فهي كالمرتدّة فتتنجّز الفرقة قبل الوطء وكذا بعده إن لم تعد إلى دينها قبل انقضاء العدّة‏.‏

أمّا إن كان الزّوج الكافر يرى نكاحها فتقر‏.‏

وصرّح الحنابلة بأنّه إذا انتقل أحد الزّوجين الذّمّيّين إلى دين لا يقر عليه كاليهوديّ يتنصّر أو النّصرانيّ يتهوّد، أو تمجّس أحد الزّوجين الكتابيّين فكالرّدّة فينفسخ النّكاح قبل الدخول ويتوقّف بعده على انقضاء العدّة، لأنّه انتقال إلى دين باطل قد أقرّ ببطلانه فلم يقرّ عليه كالمرتدّ‏.‏

ج - انتقال أحد الزّوجين الذّمّيّين إلى الإسلام‏:‏

6 - للفقهاء في الآثار المترتّبة على انتقال أحد الزّوجين الكافرين إلى الإسلام خلاف وتفصيل ينظر في مصطلح ‏(‏إسلام ف / 5‏)‏‏.‏

ذبيحة المنتقل

7 - اتّفق الفقهاء على أنّ من انتقل من الكتابيّين إلى غير دين أهل الكتاب لا تؤكل ذبيحته‏.‏ انظر‏:‏ ‏(‏ذبائح ف / 27‏)‏‏.‏

واختلف الفقهاء في ذبيحة الكتابيّ إذا انتقل من دينه إلى دين أهل كتاب آخرين كيهوديّ تنصّر أو العكس‏.‏

فذهب جمهور الفقهاء الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة في قول والحنابلة في الجملة إلى حلّ ذبيحته، وعلّل الحنفيّة ذلك بأنّه يقر على ما انتقل إليه فيعتبر ذلك عند الذّبح حتّى لو تمجّس يهوديّ لا تحل ذبيحته‏.‏

وعلّل الشّافعيّة ذلك بأنّه يقر لتساويهما في التّقرير بالجزية‏.‏

والأظهر عند الشّافعيّة أنّه لا تحل ذبيحته، لأنّه لا يقر على ما انتقل إليه‏.‏

واشترط المالكيّة لحلّ ذبيحة الكتابيّ أصالةً أو انتقالاً شروطاً ثلاثةً وهي‏:‏

أ - أن يكون المذبوح مملوكاً للكتابيّ‏.‏

ب - أن يكون المذبوح ممّا يحل له بشرعنا لا إن ذبح اليهودي ذا الظفر فلا يحل أكله‏.‏

ج - أن لا يذبحه على صنم‏.‏

وقال صاحب الرّعاية الكبرى من الحنابلة‏:‏ إن انتقل كتابيّ أو غيره إلى دين يقر أهله بكتاب وجزية وأقرّ عليه حلّت ذكاته وإلّا فلا‏.‏

وأمّا الشّافعيّة فإنّهم يشترطون لحلّ الذّبح أن يكون الذّابح ممّن يحل نكاحنا لأهل ملّته، فلا تحل عندهم ذبيحة الكتابيّ إذا انتقل من دين إلى دين أهل كتاب آخرين، وسبق أن ذكرنا أنّه لا يجوز عند الشّافعيّة نكاح المسلم للمنتقلة من اليهوديّة إلى النّصرانيّة أو العكس‏.‏

عقوبة المنتقل

8 - على ضوء ما أوضحناه من اختلاف الفقهاء في الدّين الّذي يقر عليه المنتقل فقد اختلفوا في إيقاع العقوبة عليه إلى رأيين‏:‏

الرّأي الأوّل‏:‏ ذهب جمهور الفقهاء الحنفيّة والمالكيّة وهو القول المقابل للأظهر عند الشّافعيّة والحنابلة في قول إلى أنّ المنتقل تقبل منه الجزية ويظل ذمّيّاً ولا عقوبة عليه لأنّ أهل الكفر كلهم ملّة واحدة‏.‏

الرّأي الثّاني‏:‏ يفرّق بين ما إذا انتقل إلى دين يقر أهله عليه، أو انتقل إلى دين لا يقر أهله عليه وهم الشّافعيّة في الأظهر والحنابلة في رواية، والمالكيّة في رواية حكاها القاضي أبو بكر، فإن انتقل إلى دين يقر أهله عليه تقبل منه الجزية‏.‏

أمّا إذا انتقل إلى دين لا يقر أهله عليه كما لو انتقل من اليهوديّة أو النّصرانيّة إلى المجوسيّة أو الوثنيّة أو انتقل من اليهوديّة إلى النّصرانيّة أو من النّصرانيّة إلى اليهوديّة فهو كمسلم ارتدّ فيتعيّن عليه الإسلام فقط، أو يتعيّن عليه الإسلام أو الرجوع إلى دينه الأوّل عند بعضهم، أو إلى دين مساوٍ لدينه الأوّل عند البعض الآخر، فإن أبى فقد نصّ الشّافعيّة في أحد القولين على أنّه يقتل في الحال كالمرتدّ المسلم، والثّاني وهو الأصح أنّه يلحق بمأمنه إن كان له مأمن كمن نبذ العهد ثمّ بعد ذلك هو حربيّ إن ظفرنا به قتلناه، وإن لم يكن له أمان قتلناه‏.‏

وذهب الحنابلة إلى أنّه يجبر على ترك ما انتقل إليه، وفي صفة إجباره عندهم روايتان‏:‏ إحداهما‏:‏ أنّه يقتل إن لم يرجع رجلاً كان أو امرأةً لعموم قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من بدّل دينه فاقتلوه»، ولأنّه ذمّيّ نقض العهد فأشبه ما لو نقضه بترك التزام الذّمّة وهل يستتاب ‏؟‏ يحتمل وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ يستتاب، لأنّه يسترجع عن دين باطل انتقل إليه فيستتاب كالمرتدّ‏.‏

والوجه الثّاني‏:‏ لا يستتاب، لأنّه كافر أصليّ أبيح قتله فأشبه الحربيّ، فعلى هذا إن بادر وأسلم أو رجع إلى ما يقر عليه عصم دمه وإلّا قتل‏.‏

والرّواية الثّانية‏:‏ عن أحمد قال‏:‏ إذا دخل اليهودي في النّصرانيّة رددته إلى اليهوديّة ولم أدعه فيما انتقل إليه فقيل له‏:‏ أتقتله ‏؟‏ قال‏:‏ لا ولكن يضرب ويحبس، قال‏:‏ وإن كان نصرانيّاً أو يهوديّاً فدخل في المجوسيّة كان أغلظ، لأنّه لا تؤكل ذبيحته، ولا تنكح له امرأة ولا يترك حتّى يردّ إليها فقيل له‏:‏ تقتله إذا لم يرجع ‏؟‏ قال‏:‏ إنّه لأهل ذلك، قال ابن قدامة‏:‏ وهذا نص في أنّ الكتابيّ المنتقل إلى دين آخر من دين أهل الكتاب لا يقتل بل يكره بالضّرب والحبس‏.‏

إرث المنتقل

9 - إنّ الفقهاء الّذين يجيزون للذّمّيّ أن ينتقل من دينه إلى دين كفر آخر، قد اختلفوا في إرث المنتقل فذهب الحنفيّة إلى أنّ الكفر كلّه ملّة واحدة، وحينئذٍ فيرث بعضهم البعض مطلقاً‏.‏

ويرى البعض أنّ الكفر ثلاث ملل‏:‏ اليهوديّة، والنصرانية، ودين سائرهم، وهو رأي المالكيّة والحنابلة، وحينئذٍ يرون أنّ أهل كلّ ملّة يتوارثون فيما بينهم‏.‏

وأمّا الفقهاء الّذين لا يرون جواز الانتقال من دين كفر إلى آخر ولا يقبل من المنتقل إلّا الإسلام، وهم الشّافعيّة في الأظهر والحنابلة في رواية فإنّهم لا يجيزون أن يرث المنتقل أحداً أو يرثه آخر‏.‏

وقد نصّ الشّافعيّة على أنّ المنتقل من دين إلى دين آخر كيهوديّ تنصّر أو نصراني تهوّد أو نحو ذلك لا يرث أحداً ولا يرثه أحد بمعنى لا يرثه أهل الدّين الّذي انتقل عنه ولا يرثهم، ولا يرثه أهل الدّين الّذي انتقل إليه ولا يرثهم، لأنّه لا يقر على واحد منهما كالمسلم إذا ارتدّ، ومال المنتقل يكون فيئاً لبيت مال المسلمين إذا مات كما هو شأن مال المرتدّ إذا مات‏.‏

مِنْحة

انظر‏:‏ هبة‏.‏

مَنْدُوب

انظر‏:‏ ندب‏.‏

مَنْسَك

انظر‏:‏ حجٌّ، عمرة‏.‏

م ه من يمنعه من عشيرته أو في عزّ قومه فلا يقدر عليه من يريده‏.‏

ويقال‏:‏ أزال منعة الطّير أي قوّته الّتي يمتنع بها على من يريده‏.‏

ومنه ما ورد في غنائم بدر أنّها كانت بمنعة السّماء أي بقوّة الملائكة لأنّ اللّه تعالى أمدّهم في ذلك اليوم بجنود من السّماء‏.‏

ولا يخرج المعنى الاصطلاحي عن المعنى اللغويّ‏.‏

الأحكام المتعلّقة بالمنعة

اشتراط المنعة في البغي والحرابة

2 - من الشّروط الّتي اشترطها الفقهاء لتحقق وصف البغي والحرابة‏:‏ أن يكون للبغاة والمحاربين منعة‏.‏

وللتّفصيل أنظر‏:‏ مصطلح ‏(‏بغاة ف / 6، حرابة ف / 8‏)‏‏.‏

استعانة البغاة بالمستأمنين وكانت لهم منعة

3 - ذهب الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى أنّة إذا استعان البغاة بالمستأمنين فمتى أعانوهم كانوا ناقضين للعهد وصاروا كأهل حرب ؛ لأنّهم تركوا الشّرط وهو كفهم عن المسلمين؛ وعهدهم مؤقّت بخلاف الذّمّيّين، فإذا فعلوا ذلك مكرهين وكانت لهم منعة لم ينتقض عهدهم‏.‏ وللتّفصيل انظر‏:‏ مصطلح ‏(‏بغاة ف / 33‏)‏‏.‏

مَنْفَعة

التّعريف

1 - المنفعة في اللغة‏:‏ كل ما ينتفع به، والجمع منافع‏.‏

والمنفعة في الاصطلاح هي‏:‏ الفائدة الّتي تحصل باستعمال العين، فكما أنّ المنفعة تستحصل من الدّار بسكناها تستحصل من الدّابّة بركوبها‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - الغلّة‏:‏

2 - الغلّة في اللغة‏:‏ كل شيء يحصل من ريع الأرض أو أجرتها ونحو ذلك، والجمع غلال وغلّات‏.‏

ويستعمل الفقهاء هذا اللّفظ بالمعنى اللغويّ نفسه‏.‏

فقد فسّر البعلي الغلّة بالثّمرة والكسب ونحوهما‏.‏

وفي مرشد الحيران‏:‏ المراد بالغلّة كل ما يحصل من ريع الأرض وكرائها وثمرة البستان‏.‏ ويؤخذ من عبارات القليوبيّ أنّ الغلّة‏:‏ هي الفائدة العينيّة الحاصلة عن شيء ما، في حين أنّ المنفعة‏:‏ هي الفائدة غير العينيّة‏.‏

وقال السبكي في الصّلة بين المنفعة والغلّة‏:‏ المنافع والغلّة متقاربان، وكل عين فيها منفعة فقد يحصل منها شيء غير تلك المنفعة إمّا بفعله كالاستغلال، أو بعوض عن فعل غيره، أو من عند اللّه تعالى، وذلك الشّيء يسمّى غلّةً‏.‏

ب - العين‏:‏

3 - العين لها عدّة معان في اللغة منها ما ضرب من الدّنانير والنّقد، وعين الماء، والعين الباصرة، والجاسوس‏.‏ وعين الشّيء‏:‏ نفسه‏.‏

وفي الاصطلاح‏:‏ المقصود بالعين هنا هي الشّيء المعيّن المشخّص كبيت وحصان‏.‏

والصّلة بينهما أنّ العين أصل للمنفعة‏.‏

ج - الانتفاع‏:‏

4 - الانتفاع لغةً‏:‏ مصدر انتفع من النّفع وهو الخير وهو ما يتوصّل به الإنسان إلى مطلوبه، وقال الزّركشي‏:‏ المراد بالنّفع المُكْنَة أو ما يكون وسيلةً إليها‏.‏

والانتفاع في الاصطلاح‏:‏ هو حق المنتفع في استعمال العين واستغلالها ما دامت قائمةً على حالها وإن لم تكن رقبتها مملوكةً‏.‏

وأمّا الصّلة بين المنفعة والانتفاع فقد قال القرافي عند بيان الفرق بين قاعدة تمليك الانتفاع وقاعدة تمليك المنفعة‏:‏ تمليك الانتفاع نريد به أن يباشر هو بنفسه فقط، وتمليك المنفعة هو أعم وأشمل، فيباشر بنفسه ويمكّن غيره من الانتفاع بعوض كالإجارة وبغير عوض كالعارية‏.‏

‏(‏ر‏:‏ انتفاع ف / 3‏)‏‏.‏

ماليّة المنفعة

5 - اختلف الفقهاء في ماليّة المنفعة، فذهب المالكيّة والشّافعيّة في المذهب والحنابلة إلى أنّ المنافع أموال متقوّمة‏.‏

وذهب الحنفيّة إلى أنّها ليست أموالاً متقوّمةً في حدّ ذاتها، إلّا إذا ورد عليها العقد‏.‏ والتّفصيل في مصطلح ‏(‏مال ف / 2‏)‏‏.‏

الآثار المترتّبة على الاختلاف في ماليّة المنفعة

يترتّب على اختلاف الفقهاء في ماليّة المنفعة اختلافهم في بعض المسائل، منها‏:‏

أ - ضمان المنافع‏:‏

6 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ المنافع تضمن بالإتلاف والغصب كما تضمن الأعيان‏.‏ وقد استدلوا بأدلّة منها‏:‏ أنّ الشّارع أجاز أن تكون مهراً في النّكاح، ولأنّ المال اسم لما هو مخلوق لإقامة مصالح العباد به، والمنافع يصدق عليها ذلك، ولأنّ المنفعة مباحة متقوّمة فتجبر في العقود الصّحيحة والفاسدة‏.‏

وذهب الحنفيّة إلى أنّ المنافع لا تضمن لا بالغصب ولا بالإتلاف وإنّما تضمن بالعقد أو شبهة العقد‏.‏

أمّا عدم ضمان المنافع بالغصب فلأنّها حدثت بفعل الغاصب وكسبه والكسب للكاسب لقوله عليه الصّلاة والسّلام‏:‏ «من وجد عين ماله عند رجل فهو أحق به» فلا يضمن ملكه ولأنّ الغصب إزالة يد المالك بإثبات اليد العادية، ولا يتصوّر ذلك في الغصب لأنّ المنافع أعراضٌ لا تبقى زمانين فيستحيل غصبها‏.‏

وأمّا عدم ضمان المنافع بالإتلاف فلأنّها لا تخلو إمّا أن يرد عليها الإتلاف قبل وجودها أو حال وجودها أو بعد وجودها وكل ذلك محال، أمّا قبل وجودها فلأنّ إتلاف المعدوم لا يمكن، وأمّا حال وجودها فلأنّ الإتلاف إذا طرأ على الوجود رفعه، فإذا قارنه منعه، وأمّا بعد وجودها فلأنّها تنعدم كلّما وجدت فلا يتصوّر إتلاف المعدوم‏.‏

وقد استثنى الحنفيّة من أصل عدم تضمين المنافع ثلاثة مسائل وهي‏:‏ مال اليتيم ومال الوقف والمعد للاستغلال‏.‏

‏(‏ر‏:‏ ضمان ف / 22، وغصب ف / 18‏)‏‏.‏

ب - جعل المنفعة صداقاً‏:‏

7 - ذهب المالكيّة في المشهور والشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه يجوز أن تكون المنفعة صداقاً جرياً على أصلهم من أنّ كلّ ما يجوز أخذ العوض عنه يصح تسميته صداقاً والمنافع يجوز أخذ العوض عنها فتصح تسميتها صداقاً‏.‏

وللحنفيّة في المسألة تفصيل‏:‏ فقد جاء في الفتاوى الهنديّة‏:‏ المهر إنّما يصح بكلّ ما هو مال متقوّم والمنافع تصلح مهراً غير أنّ الزّوج إذا كان حراً وقد تزوّجها على خدمته إيّاها جاز النّكاح ويقضي لها بمهر المثل عند أبي حنيفة وأبي يوسف‏.‏

وقال الكاساني في معرض الاستدلال لما ذهب إليه الشّيخان‏:‏ إنّ المنافع ليست بأموال متقوّمة على أصل أصحابنا، ولهذا لم تكن مضمونةً بالغصب والإتلاف وإنّما يثبت لها حكم التّقوم في سائر العقود شرعاً ضرورةً دفعاً للحاجة بها ولا يمكن في دفع الحاجة بها هاهنا ؛ لأنّ الحاجة لا تندفع إلّا بالتّسليم وأنّه ممنوع عنه شرعاً لأنّ استخدام الحرّة زوجها الحرّ حرام لكونه استهانةً وإذلالاً وهذا لا يجوز‏.‏

ولو تزوّجها على منافع سائر الأعيان من سكنى داره وخدمة عبيده وركوب دابّته والحمل عليها وزراعة أرضها ونحو ذلك من منافع الأعيان مدّةً معلومةً صحّت التّسمية ؛ لأنّ هذه المنافع أموال أو ألتحقت بالأموال شرعاً في سائر العقود لمكان الحاجة والحاجة في النّكاح متحقّقة، وإمكان الدّفع بالتّسليم ثابت بتسليم محالّها، إذ ليس فيه استخدام المرأة زوجها فجعلت أموالاً والتحقت بالأعيان فصحّت تسميتها‏.‏

ج - ثبوت الشّفعة عند معاوضة المشفوع فيه بمنفعة‏:‏

8 - اختلف الفقهاء في ثبوت الشّفعة عند معاوضة المشفوع فيه بمنفعة‏.‏

فذهب الحنفيّة والحنابلة إلى أنّه لا تجب الشّفعة في معاوضة عين المال بما ليس بعين المال لأنّ الشّفيع يتملّك بما يتملّك به المشتري وتملك الشّفيع بما تملّكه به المشتري هنا غير ممكن، والتّملك بعين المال ليس تملكاً بما تملّك به المشتري فامتنع أصلاً ولا تكون الشّفعة فيها مشروعةً، وعلى هذا يخرج ما إذا جعل الدّار مهراً بأن تزوّج على دار، أو جعلها بدل الخلع بأن خالع امرأته على دار، أو جعلها أجرةً في الإجارات بأن استأجر بدار لأنّ هذا معاوضة المال بالمنفعة لأنّ حكم الإجارة ثبت في المنفعة وكذا حكم النّكاح، والمنفعة - كما صرّح الحنفيّة - ليس بمال إذ المنافع في الأصل لا قيمة لها والأصل فيها أن لا تكون مضمونةً لأنّ الشّيء يضمن بمثله في الأصل والعرض لا يماثل العين ولهذا لا تضمن بالغصب والإتلاف إلّا أنّها تتقوّم بالعقد بطريق الضّرورة ولحاجة النّاس فبقي ما وراء ذلك على الأصل فلا يظهر تقومها في حقّ الشّفيع‏.‏

ويرى المالكيّة والشّافعيّة أنّه إذا كانت المعاوضة بشيء غير متموّل كمن جعل الشّقص صداقاً أو عوض خلع أو عتق أو صلح عن دم في جناية العمد ثبتت الشّفعة في كلّ ذلك ويأخذه الشّفيع بقيمة الشّقص‏.‏

وللتّفصيل ‏(‏ر‏:‏ شفعة ف / 55‏)‏‏.‏

د - وراثة المنافع‏:‏

9 - يرى جمهور الفقهاء أنّ المنافع تورث مثل بقيّة الأموال المملوكة جرياً على أصلهم من أنّ المنافع أموال متقوّمة‏.‏

وأمّا الحنفيّة فقد صرّحوا بأنّ المنافع بانفرادها لا تحتمل الإرث وإن كان المورّث تملّكها بعوض‏.‏

‏(‏ر‏:‏ حق ف / 42، وإرث ف / 6‏)‏‏.‏

العقود الواردة على المنافع

10 - المنافع تملك بطريقين‏:‏

أحدهما‏:‏ أن تكون تابعةً لملك الرّقبة‏.‏

والثّاني‏:‏ أن يكون ورد عليها عقد وحدها‏.‏

والعقود الواردة على المنافع ثلاثة أقسام‏:‏

منها‏:‏ ما هو بعوض، وهو الإجارة والجعالة والقراض والمساقاة والمزارعة‏.‏

ومنها‏:‏ ما هو بغير عوض كالوقف والشّركة والوديعة والعارية وحفظ اللّقيط‏.‏

ومنها‏:‏ نوعان متردّدان بين هذين القسمين وهما الوكالة والقيام على الأطفال، فإنّه تارةً يكون بعوض وتارةً بغير عوض‏.‏

ومنه‏:‏ المسابقة والمناضلة وهي قسم مفرد إذ المراد تمليك منفعته‏.‏

وللتّفصيل في أحكام هذه العقود ومعرفة موقع عنصر المنفعة فيها تنظر المصطلحات الخاصّة بهذه العقود‏.‏

حكم اشتراط منفعة في القرض

11 - من شروط صحّة القرض أن لا يكون فيه جر منفعة فإن كان لم يجز، نحو ما إذا أقرضه وشرط شرطاً له فيه منفعة أو أقرضه دراهم غلّةً على أن يردّ عليه صحاحاً ؛ لما روي أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال‏:‏ «كل قرض جرّ منفعةً فهو رباً» هذا إذا كانت الزّيادة مشروطةً في القرض أو ملحوظةً أو معروفةً، وأمّا إذا لم تكن فلا بأس بذلك‏.‏ وللتّفصيل ينظر ‏(‏قرضٌ ف / 28‏)‏‏.‏

رهن المنفعة

12 - الأصل عند الفقهاء أنّ ما يجوز بيعه يجوز رهنه، وما لا يجوز بيعه لا يجوز رهنه‏.‏ بناءً على هذا الأصل لا يجوز رهن المنافع عند الحنفيّة لعدم جواز بيعها إذ المنافع ليست بمال عندهم‏.‏

أمّا الشّافعيّة والحنابلة فإنّهم وإن كانوا يجيزون بيع المنافع لكنّهم صرّحوا بعدم جواز رهن المنافع لأنّ مقصود الرّاهن استيفاء الدّين من ثمن الرّهن والمنافع تهلك إلى حلول الحقّ فلا يحصل بها الاستيثاق‏.‏

وعند المالكيّة في جواز رهن المنفعة قولان‏:‏

جاء في جواهر الإكليل فيما يجوز رهنه، قال‏:‏ كظهور حبس دار رهنت على أنّها مملوكة، فثبت تحبيسها على راهنها، فقيل يبطل رهنها، ولا ينتقل الرّهن إلى منفعتها، وقيل يصح رهنها، وينتقل إليها، لجواز بيع المنفعة ورهنها، فلا يبطل رهنها ببطلان رهن الدّار‏.‏

قسمة المنافع

13 - لا خلاف بين الفقهاء في جواز قسمة المنافع إذا تراضى الشّركاء عليها ‏"‏ وهي المهايأة ‏"‏‏.‏

كما لا خلاف بينهم في أنّه إذا طلب أحد الشّركاء قسمة الأعيان والآخر قسمة المنافع يقسم القاضي الأعيان لأنّه أبلغ في التّكميل‏.‏

وللفقهاء في إجبار الشّريك الممتنع عن قسمة المنافع وصفة قسمة المنافع من حيث اللزوم وعدمه وأنواع قسمة المنافع ومحلّها وفيما تصح فيه هذه القسمة وما لا تصح خلاف وتفصيل ينظر في ‏(‏قسمة ف / 55 وما بعدها‏)‏‏.‏

ملك المنفعة

14 - الملك أربعة أنواع‏:‏ ملك عين ومنفعة، وملك عين بلا منفعة، وملك منفعة بلا عين، وملك انتفاع من غير ملك المنفعة‏.‏

إسقاط ملك المنفعة والاعتياض عنه

15 - الأصل في المنافع أنّها تقبل الإسقاط من مالك العين المنتفع بها أو مستحقّ منفعتها، إذ كل جائز التّصرف لا يمنع من إسقاط حقّه في المنفعة بدون عوض ما لم يكن هناك مانع، من ذلك وهذا باتّفاق‏.‏

أمّا إسقاطه بعوض فإنّه يجوز عند جمهور الفقهاء‏.‏

أمّا الحنفيّة فإنّ الاعتياض عن المنافع عندهم لا يجوز إلّا لمالك الرّقبة والمنفعة أو لمالك المنفعة بعوض‏.‏

وللتّفصيل ينظر ‏(‏إسقاط ف / 35 - 36، وحق ف / 25‏)‏‏.‏

انتهاء ملك المنفعة

16 - تنتهي ملكيّة المنفعة بأمور منها‏:‏

أ - هلاك محلّ المنفعة حيث تنفسخ الإجارة والإعارة والوصيّة بهلاك العين المنتفع بها أو تلفها‏.‏

ب - انتهاء المدّة المحدّدة لها‏.‏

ج - وفاة المنتفع على خلاف بين الفقهاء في ذلك‏.‏

وتفصيل ذلك في مصطلحاتها، وانظر ‏(‏إذن ف / 65‏)‏‏.‏

الوصيّة بالمنفعة

17 - ذهب الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى جواز الوصيّة بالمنافع ؛ لأنّ الموصي لمّا ملك تمليك المنافع حال حياته بعقد الإجارة والإعارة فلأن يملكها بعقد الوصيّة أولى لأنّه أوسع العقود، ألا ترى أنّ الوصيّة تحتمل ما لا يحتمله سائر العقود من عدم المحلّ والخطر والجهالة‏.‏

ويرى ابن أبي ليلى أنّه لا تجوز الوصيّة بالمنافع لأنّها معدومة‏.‏

وللتّفصيل في الأحكام المتعلّقة بالوصيّة بالمنفعة ‏(‏ر‏:‏ وصيّة‏)‏‏.‏

وقف المنفعة

18 - اختلف الفقهاء في جواز وقف المنفعة‏.‏

فيرى الجمهور من الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة عدم جواز وقف المنفعة‏.‏

ويرى المالكيّة جواز وقفها‏.‏

والتّفصيل في مصطلح ‏(‏وقف‏)‏‏.‏

الاختصاص بالمنافع

19 - قال عز الدّين بن عبد السّلام‏:‏ الاختصاص بالمنافع أنواع‏:‏

أحدها‏:‏ الاختصاص بإحياء الموات بالتّحجر والإقطاع‏.‏

الثّاني‏:‏ الاختصاص بالسّبْق إلى بعض المباحات‏.‏

الثّالث‏:‏ الاختصاص بالسّبق إلى مقاعد الأسواق‏.‏

الرّابع‏:‏ الاختصاص بمقاعد المساجد للصّلاة والعزلة والاعتكاف‏.‏

الخامس‏:‏ الاختصاص بالسّبق إلى المدارس والربط والأوقاف‏.‏

السّادس‏:‏ الاختصاص بمواقع النسك كالمطاف والمسعى وعرفة والمزدلفة ومنى ومرمى الجمار‏.‏

السّابع‏:‏ الاختصاص بالخانات المسبّلة في الطرقات‏.‏

الثّامن‏:‏ الاختصاص بالكلاب والمحترم من الخمور‏.‏

وللتّفصيل ينظر ‏(‏إحياء الموات ف / 20 واستيلاء، ف / 19 وما بعدها، وطريق ف / 9 وما بعدها، ومجلسٌ ف / 7، واختصاص ف / 64 وما بعدها، وتحجير ف / 1‏)‏‏.‏

تعطيل الإنسان عن منافعه

20 - لا يجوز تعطيل الإنسان عن منافعه وأشغاله، واستثني من ذلك تعطيل المدّعى عليه إذا استدعاه الحاكم بطلب خصمه لإحضاره لما فيه من المصلحة العامّة، وكذلك تعطيل الشّهود إذا أستحضروا لما تعيّن عليهم أداؤه، وكذلك استحضارهم لما لا يتم إلّا بالشّهادة كالنّكاح لأنّها حقوق واجبة فصار كتعطيلهم فيما لا يتم من حقوق اللّه إلّا بالتّعطيل كالغزوات والجمعات وتغيير المنكرات‏.‏

إذهاب منافع أعضاء الإنسان

21 - الجناية المؤدّية إلى إذهاب منفعة العضو إمّا أن تكون عمداً أو خطأً‏.‏

فإذا كانت الجناية المؤدّية إلى إذهاب منفعة العضو عمداً فقد اختلف الفقهاء في وجوب القصاص فيها‏.‏

وينظر تفصيل ذلك في ‏(‏جناية على ما دون النّفس ف / 35‏)‏‏.‏

أمّا إذا كانت الجناية المؤدّية إلى فوت منفعة العضو خطأً فللفقهاء في وجوب الدّية تفصيل ينظر في ‏(‏ديات ف / 55 - 62‏)‏‏.‏

الأصل في المنافع الإذن

22 - قال فخر الدّين الرّازيّ‏:‏ الأصل في المنافع الإذن، وفي المضارّ المنع بأدلّة الشّرع، فإنّ ذينك أصلان نافعان في الشّرع‏.‏

أمّا الأصل الأوّل ‏"‏ الأصل في المنافع الإذن ‏"‏ فالدّليل عليه وجوه‏:‏

المسلك الأوّل‏:‏ التّمسك بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً‏}‏ و ‏"‏ اللّام ‏"‏ تقتضي الاختصاص بجهة الانتفاع‏.‏

المسلك الثّاني‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ‏}‏ أنكر اللّه تعالى على من حرّم زينة اللّه، فوجب أن لا تثبت حرمة زينة اللّه، وإذا لم تثبت حرمة زينة اللّه، امتنع ثبوت الحرمة في كلّ فرد من أفراد زينة اللّه لأنّ المطلق جزء من المقيّد، فلو ثبتت الحرمة في فرد من أفراد زينة اللّه لثبتت الحرمة في زينة اللّه تعالى، وذلك على خلاف الأصل، وإذا انتفت الحرمة بالكلّيّة ثبتت الإباحة‏.‏

المسلك الثّالث‏:‏ أنّ اللّه تعالى قال‏:‏ ‏{‏أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ‏}‏ وليس المراد من الطّيّب الحلال وإلّا لزم التّكرار فوجب تفسيره بما يستطاب وذلك يقتضي حلّ المنافع بأسرها‏.‏

المسلك الرّابع‏:‏ القياس‏:‏ وهو أنّه انتفاع بما لا ضرر فيه على المالك قطعاً وعلى المنتفع ظاهراً فوجب أن لا يمنع كالاستضاءة بضوء سراج الغير والاستظلال بظلّ جداره‏.‏

إنّما قلنا‏:‏ إنّه لا ضرر فيه على المالك لأنّ المالك هو اللّه تعالى والضّرر عليه محال‏.‏

وأمّا ملك العباد فقد كان معدوماً والأصل بقاء ذلك العدم، ترك العمل به فيما وقع اتّفاق الخصم على كونه مانعاً فيبقى في غيره على الأصل‏.‏

المسلك الخامس‏:‏ وهو أنّ اللّه تعالى خلق الأعيان إمّا لا لحكمة أو لحكمة، والأوّل باطل لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا‏}‏ ولأنّ الفعل الخالي عن الحكمة عبثٌ والعبث لا يليق بالحكيم‏.‏

وأمّا إن كان خلقها لحكمة فتلك الحكمة إمّا عود النّفع إليه أو إلينا‏.‏

والأوّل محال لاستحالة الانتفاع عليه فتعيّن أنّه تعالى إنّما خلقها لينتفع بها المحتاجون وهذا يقتضي أن يكون المقصود من الخلق نفع المحتاج وإذا كان كذلك كان نفع المحتاج مطلوب الحصول أينما كان‏.‏

فإن منع منه فإنّما يمنع لأنّه بحيث يلزمه رجوع ضرر إلى محتاج، فإذا نهانا اللّه تعالى عن بعض الانتفاعات علمنا أنّه تعالى إنّما منعنا منها لعلمه باستلزامها للمضارّ إمّا في الحال أو في المآل ولكنّ ذلك على خلاف الأصل فثبت أنّ الأصل في المنافع الإباحة‏.‏

وأورد الزّركشي دليل الأصل في المنافع الإذن وفي المضارّ المنع ضمن الأدلّة المختلف فيها وذكر الخلاف في الاحتجاج به وصرّح بأنّه ليس المراد بالمنافع هنا مقابل الأعيان بل كل ما ينتفع به وعدّ من القواعد المترتّبة على هذا الأصل‏:‏ القول بالبراءة الأصليّة، واستصحاب حكم النّفي في كلّ دليل مشكوك فيه حتّى يدلّ دليل على الوجوب‏.‏

وللتّفصيل ينظر الملحق الأصولي‏.‏

مُنَقِّلة

التّعريف

1 - المنقّلة - بكسر القاف المشدّدة - لغةً‏:‏ الشّجّة الّتي تنقل العظم أي تكسره حتّى يخرج منها فراش العظام أي رقاقها‏.‏

واصطلاحاً‏:‏ عرّفها الحنفيّة بأنّها‏:‏ الّتي تقتصر الجناية على نقل العظم وتحويله، من غير وصوله إلى الجلدة الّتي بين العظم والدّماغ‏.‏

وعرّفها المالكيّة بأنّها‏:‏ ما ينقل بها فراش العظم أي العظم الرّقيق الكائن فوق العظم كقشر البصل، أي ما يزيل منها الطّبيب فراش العظم للدّواء‏.‏

وعرّفها الشّافعيّة بأنّها‏:‏ هي الّتي تنقل العظم سواء أوضحته وهشّمته أو لا‏.‏

وعرّفها الحنابلة بأنّها‏:‏ هي الّتي توضّح العظم وتهشّمه، وتنقل عظامها بتكسيرها‏.‏

الأحكام المتعلّقة بالمنقّلة

أوّلاً - عدم وجوب القصاص

2 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّ المنقّلة لا يجب فيها قصاص لعدم انضباطها، وللخطر الشّديد في الاقتصاص فيها‏.‏

وقد روى أبو بكر بن محمّد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جدّه‏:‏ قال‏:‏ كتب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كتاباً لأهل اليمن‏:‏ وفيه‏:‏ «وفي المنقّلة خمسة عشرة من الإبل»‏.‏ وحكى ابن المنذر إجماع أهل العلم على ذلك‏.‏

ثانياً - شروط وجوب دية المنقّلة

3 - اختلف الفقهاء في الشّروط اللّازمة لإيجاب هذه الدّية‏.‏

وهذه الشّروط هي ما ورد في تعريف كلّ مذهب‏.‏

غير أنّ للشّافعيّة تفصيلاً آخر‏:‏

فقالوا‏:‏ في الشّجّة المنقّلة بالذّكر الحرّ المسلم مع إيضاح وهشم خمسة عشر بعيراً‏.‏

ونصّ بعضهم على أنّه إذا حدثت المنقّلة الهاشمة دون إيضاح ودون إحواج إليه بشقّ ودون سراية فالأصح أنّ فيها عشرة أبعرة، وقيل‏:‏ فيها حكومة‏.‏

ثالثاً - تعدد المنقّلة

4 - للفقهاء تفصيل في تعدد المنقّلة بيانه فيما يأتي‏:‏

قال المالكيّة‏:‏ ويتعدّد الواجب في المنقّلة بتعددها إن لم تتّصل ببعضها، بل كان بين كلّ واحدة فاصل، فإن اتّصلت المنقّلات بأن صارت شيئاً واحداً فلا يتعدّد الواجب لأنّها واحدة متّسعة إن كان بضربة واحدة أو ضرباتٍ في فور، فلو تعدّدت المنقّلة بضربات في زمن متراخٍ فلكلّ جرح حكمه ولو اتّصل‏.‏

وقال الحنابلة في تفصيل المنقّلة ما في تفصيل الموضحة والهاشمة، وقد فصّل حكم الموضحة على الوجه التّالي‏:‏

إن عمّت الموضحة الرّأس ونزلت إلى الوجه فموضحتان، أو لم تعمّ الرّأس ونزلت إلى الوجه فموضحتان ؛ لأنّه أوضحه في عضوين، فكان لكلّ واحد منهما حكم نفسه‏.‏

وإن أوضحه موضحتين بينهما حاجزٌ فعلى الجاني أرش موضحتين‏:‏ عشرة أبعرة‏.‏

فإن خرق بينهما الجاني أو ذهب ما بينهما بسراية صارتا موضحةً واحدةً، كما لو أوضحه الكلّ من غير حاجز‏.‏

وإن اندملت الموضحتان ثمّ أزال الجاني الحاجز بينهما فعليه أرش ثلاث مواضح ؛ لأنّه استقرّ عليه أرش الأوليين بالاندمال، ثمّ لزمه أرش الثّالثة‏.‏

وإن اندملت إحداهما ثمّ زال الحاجز بفعله أي الجاني أو بسراية الأخرى الّتي لم تندمل فموضحتان ؛ لأنّه استقرّ عليه أرش الّتي اندملت، وما عداها موضحة واحدة كما لو لم يكن معها غيرها‏.‏

وإن خرقه - أي الحاجز - بين الموضحتين أجنبيّ فعلى الأوّل أرش موضحتين وعلى الثّاني أرش موضحة واحدة ؛ لأنّ فعل كلّ واحد منهما لا ينبني على فعل الآخر فانفرد كل منهما بجنايته‏.‏

وإن أزال الحاجز بين الموضحتين المجنيُّ عليه فعلى الأوّل أرش موضحتين ؛ لأنّ ذلك وجب عليه بجنايته، فلم يسقط عنه شيء بفعل غيره‏.‏

فإن اختلفا فيمن خرقه - أي‏:‏ الحاجز بين الموضحتين - وقال المجني عليه‏:‏ أنا الخارق لما بينهما‏.‏

وقال الجاني‏:‏ بل أنا شققت لما بينهما، أو قال المجني عليه للجاني‏:‏ أزالها آخر سواك صُدِّق المجني عليه بيمينه ؛ لأنّ سبب أرش الموضحتين قد وُجد والجاني يدّعي زواله والمجروح ينكره والقول قول المنكر لأنّ الأصل معه‏.‏

وإن خرق الجاني ما بينهما في الباطن بأن قطع اللّحم الّذي بينهما وترك الجلد الّذي فوقهما صارا موضحةً واحدةً لاتّصالهما من الباطن كما لو خرقه ظاهراً وباطناً‏.‏

وإن خرق الحاجز في الظّاهر فقط فثنتان، لعدم اتّصالهما باطناً‏.‏

وإن جرح جراحةً واحدةً في طرفيها فموضحتان‏.‏

فإن كانت الشّجّة منقّلةً وما دونها فعليه أرش منقّلة فقط‏.‏

مَنْقُول

التّعريف

1 - المنقول في اللغة اسم مفعول من نقل ينقل نقلاً، والنّقل‏:‏ تحويل الشّيء من موضع إلى موضع وبابه نصر‏.‏

وفي الاصطلاح‏:‏ اختلف الفقهاء في المنقول على رأيين‏:‏

الرّأي الأوّل‏:‏ يرى جمهور الفقهاء أنّ المنقول هو الشّيء الّذي يمكن نقله من محل إلى آخر، سواء أبقي على صورته وهيئته الأولى أم تغيّرت صورته وهيئته بالنّقل والتّحويل، ويشمل النقود والعروض والحيوانات والمكيلات والموزونات‏.‏

وغير المنقول هو‏:‏ ما لا يمكن نقله من محل إلى آخر كالدور والأراضي ممّا يسمّى بالعقار‏.‏ الرّأي الثّاني‏:‏ وهو رأي المالكيّة‏:‏ أنّ المنقول يطلق على ما يمكن نقله من مكان إلى آخر مع بقائه على صورته وهيئته الأولى كالملابس والكتب ونحوها‏.‏

الأحكام المتعلّقة بالمنقول

تتعلّق بالمنقول أحكام منها‏:‏

أ - بيع المنقول قبل قبضه‏:‏

2 - اختلف الفقهاء في بيع المنقول قبل قبضه‏.‏

وتفصيل ذلك في مصطلح ‏(‏البيع الفاسد ف / 16، بيع ما لم يقبض ف / 1، وما بعدها قبضٌ، ف / 7، وما بعدها‏)‏‏.‏

ب - الشّفعة في المنقول‏:‏

3 - اختلف الفقهاء في ثبوت الشّفعة في المنقول‏.‏

والتّفصيل في ‏(‏شفعة ف / 23 25 26‏)‏‏.‏

ج - بيع الوصيّ من المال المنقول‏:‏

4 - ذهب الفقهاء إلى جواز بيع الوصيّ من المال الموصى عليه إذا كان المال من المنقولات وكان البيع والشّراء بمثل القيمة، أو بغبن يسير وهو ما يتغابن فيه النّاس عادةً، لأنّ الغبن اليسير لا بدَّ من حصوله في المعاملات الماليّة، فإذا لم يتسامح فيه أدّى ذلك إلى سدّ باب التّصرفات، أمّا إذا كان البيع والشّراء بما لا يتغابن فيه النّاس عادةً فإنّ العقد لا يكون صحيحاً‏.‏

أمّا إذا كان المال الموصى عليه عقاراً فلا يجوز للوصيّ أن يبيع إذا لم يكن هناك مسوّغٌ شرعيّ‏.‏

والتّفصيل في مصطلح ‏(‏إيصاء ف / 14‏)‏‏.‏

د - غصب المنقول‏:‏

5 - ذهب جمهور الفقهاء من الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه يتصوّر الغصب في المنقول‏,‏ ثمّ اختلفوا في غصب العقار على مذاهب‏.‏

وتفصيله في ‏(‏غصب ف / 9 وما بعدها‏)‏‏.‏

هـ - وقف المنقول‏:‏

6 - ذهب جمهور الفقهاء من الشّافعيّة والحنابلة، وهو المعتمد عند المالكيّة وزفر من الحنفيّة إلى جواز وقف المنقول، كوقف فرسٍ على الغزاة وسلاح وغيرهما، لحديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه‏:‏ «من احتبس فرساً في سبيل اللّه إيماناً باللّه وتصديقاً بوعده فإنّ شِبَعَه ورَيَّه وروثه وبوله في ميزانه يوم القيامة»، ولقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «وأمّا خالد فإنّكم تظلمون خالداً، فإنّه احتبس أدراعه وأعتده في سبيل اللّه»، وروى الخلّال عن نافع‏:‏ إنّ حفصة رضي الله عنها ابتاعت حليّاً بعشرين ألفاً حبسته على نساء آل الخطّاب فكانت لا تخرج زكاته‏.‏

وفي القياس عند الحنفيّة لا يجوز وقف المنقول لأنّ شرط الوقف التّأبيد والمنقول لا يتأبّد فترك القياس للآثار الّتي وردت فيه‏.‏

وأمّا وقف المنقول قصداً فلا يجوز عند أبي حنيفة وأبي يوسف، ويجوز عند محمّد إذا كان متعارفاً بين النّاس ؛ لأنّ التّعامل بين النّاس يترك به القياس، لقول ابن مسعود‏:‏ ما رأى المسلمون حسناً فهو عند اللّه حسن‏.‏

وقال أبو يوسف ومحمّد‏:‏ يجوز وقف المنقول تبعاً للأرض وذلك استحساناً ؛ لأنّه قد يثبت من الحكم تبعاً ما لا يثبت مقصوداً، كما إذا وقف ضيعةً ببقرها وأكرتها، وكذلك سائر آلات الحراثة لأنّها تبع للأرض في تحصيل ما هو المقصود، وكذا وقف السّلاح والخيل يجوز استحساناً‏.‏

ونقل في المجتبى عن السّير جواز وقف المنقول مطلقاً عند محمّد، وإذا جرى فيه التّعامل عند أبي يوسف، والمشهور الأوّل‏.‏

والتّفصيل في مصطلح ‏(‏وقف‏)‏‏.‏

و - كيفيّة قبض المنقول‏:‏

7 - اختلف الفقهاء في كيفيّة قبض المنقول فقال المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة‏:‏ إنّ قبض المنقول يكون بالنّقل والتّحويل‏.‏

وقال الحنفيّة‏:‏ قبض المنقول يكون بالتّناول باليد أو بالتّخلية على وجه التّمكين‏.‏

وتفصيل ذلك في مصطلح ‏(‏قبضٌ ف / 7 وما بعدها‏)‏‏.‏

مَنْكِب

التّعريف

1 - المنكب في اللغة كالمجلس هو مجتمع رأس العضد والكتف من يد الإنسان، وجمع المنكب مناكب، ومنه أستعير للأرض في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا‏}‏‏.‏

ويستعمل الفقهاء هذا اللّفظ بالمعنى اللغويّ نفسه‏.‏

الأحكام المتعلّقة بالمنكب

تتعلّق بالمنكب أحكام منها‏:‏

أحكام المنكب في الوضوء

لبيان حكم المنكب في الوضوء أحوال‏:‏

أ - غسل المنكب في الوضوء‏:‏

2 - اختلف الفقهاء في حكم غسل المنكب عند الوضوء على رأيين‏:‏

الرّأي الأوّل‏:‏ يرى الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة استحباب الزّيادة في غسل اليدين عند الوضوء لما ورد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال‏:‏ سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ «إنّ أمّتي يأتون يوم القيامة غراً محجّلين من أثر الوضوء فمن استطاع منكم أن يطيل غرّته فليفعل»‏.‏ ولقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أنتم الغر المحجّلون يوم القيامة من إسباغ الوضوء فمن استطاع منكم فليطل غرّته وتحجيله»، ومعنى غراً محجّلين‏:‏ بيض الوجوه واليدين والرّجلين كالفرس الأغرّ، وهو الّذي في وجهه بياضٌ، والمحجّل هو الّذي قوائمه بيضٌ‏.‏

وممّن ذهب إلى استحباب غسل اليدين في الوضوء حتّى المنكبين من الصّحابة أبو هريرة وعبد اللّه بن عمر رضي الله عنهم‏.‏

ثمّ اختلف العلماء في القدر المستحبّ من التّطويل في التّحجيل‏.‏

فأمّا الحنفيّة والحنابلة وجماعة من الشّافعيّة فلم يحدوا للزّيادة في غسل الأعضاء في الوضوء حداً‏.‏

وللشّافعيّة أقوال أخرى في تحديد حدّ الزّيادة، فقال جماعة منهم يستحب الزّيادة في الوضوء إلى نصف السّاق والعضد‏.‏

وقال البغوي‏:‏ نصف العضد فما فوقه ونصف السّاق فما فوقه‏.‏

وقال القاضي حسين وآخرون‏:‏ يبلغ به الإبط والركبة، وذكر النّووي أنّ القاضي حسين قال في تعليقه‏:‏ إسباغ الوضوء سنّة إطالةً للغرَّة وهو أن يستوعب جميع الوجه بالغسلة حتّى يغسل جزءاً من رأسه ويغسل اليدين إلى المنكبين والرّجلين إلى الركبتين‏.‏

الرّأي الثّاني‏:‏ وهو للمالكيّة فقد نصوا على أنّه تكره كثرة الزّيادة على محلّ الفرض وقالوا‏:‏ وأمّا أصل الزّيادة فلا بدَّ منها لأنّه من باب ما لا يتم الواجب إلّا به فهو واجب‏.‏

ب - غسل عضوٍ نابتٍ في المنكب عند الوضوء‏:‏

3 - اختلف الفقهاء في حكم غسل العضو النّابت في المنكب عند الوضوء‏.‏

فيرى الحنفيّة أنّه لو خلق له يدان على المنكب فالتّامّة هي الأصليّة يجب غسلها والأخرى زائدة فما حاذى منها محلّ الفرض وجب غسله وإلّا فلا يجب بل يندب غسله‏.‏

وقال المالكيّة‏:‏ ويغسل المتوضّئُ يديه مع المرفقين ويغسل بقيّة معصم إن قطع المعصم كما يغسل كفاً خلقت بمنكب أي مفصل العضد من الكتف إذا لم يكن له يد غيرها، فإن كان له يد غيرها وكان لها مرفق أو نبتت في محلّ الفرض وجب غسلها أيضاً‏.‏

وقال الشّافعيّة‏:‏ إن نبت بغير محلّ الفرض إصبع زائدة أو سَلعة وجب غسل ما حاذى منها محلّ الفرض لوقوع اسم اليد عليه مع محاذاته لمحلّ الفرض بخلاف ما لم يحاذه، فإن لم تتميّز الزّائدة عن الأصليّة بأن كانتا أصليّتين أو إحداهما زائدةً ولم تتميّز بنحو فحش قصر ونقص أصابع وضعف بطشٍ غسلهما وجوباً سواء أخرجتا من المنكب أم من غيره ليتحقّق الإتيان بالفرض بخلاف نظيره في السّرقة‏.‏ وإن كانت له يدان متساويتان في البطش والخلقة على منكب، أو مرفق لزمه غسلهما، لوقوع اسم اليد عليهما‏.‏ وإن كانت إحداهما تامّةً والأخرى ناقصةً فالتّامّة هي الأصليّة، فيجب غسلها، وأمّا النّاقصة فإن خلقت في محلّ الفرض وجب غسلها بلا خلاف عندهم أيضاً كالإصبع الزّائدة، قال الرّافعي وغيره‏:‏ وسواء جاوز طولها الأصليّة أم لا، قال‏:‏ ومن العلامات المميّزة للزّائدة أن تكون فاحشة القصر والأخرى معتدلةً، ومنها‏:‏ فقد البطش وضعفه ونقص الأصابع‏.‏

وقال الحنابلة‏:‏ وإن خلقت له إصبع زائدة أو يد زائدة في محلّ الفرض وجب غسلها مع الأصليّة لأنّها نابتة فيه، شبهت الثؤلول، وإن كانت نابتةً في غير محلّ الفرض كالعضد أو المنكب لم يجب غسلها سواء كانت قصيرةً أو طويلةً ؛ لأنّها في غير محلّ الفرض فأشبهت شعر الرّأس إذا نزل عن الوجه قال ابن قدامة‏:‏ وهذا قول ابن حامد وابن عقيل، وقال القاضي‏:‏ إن كان بعضها يحاذي محلّ الفرض غسل ما يحاذيه منها والأوّل أصح‏.‏

ج - غسل المنكب عند قطع اليد من المرفق‏:‏

4 - اختلف الفقهاء في حكم غسل المنكب في الوضوء عند قطع اليد من المرفق‏.‏

فذهب الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة إلى أنّ من قطعت يده ولم يبق من المرفق شيء سقط الغسل لعدم محلّه، وإن قطعت يده من دون المرفق وجب غسل ما بقي من محلّ الفرض‏.‏ ويرى الشّافعيّة أنّ من قطع من منكبيه ندب غسل محلّ القطع بالماء‏.‏

أحكام المنكب في الصّلاة

أ - رفع اليدين حذو المنكبين عند تكبيرة الإحرام‏:‏

5 - اختلف الفقهاء في المدى الّذي ترفع إليه اليدان عند تكبيرة الإحرام هل ترفع إلى شحمتي الأذنين أو إلى المنكبين، وهل يستوي في ذلك الرّجل والمرأة ‏؟‏

ينظر تفصيله في ‏(‏صلاة ف / 57 وما بعدها‏)‏‏.‏

ب - رفع اليدين حذو المنكبين عند تكبيرات الانتقال‏:‏

6 - اتّفق القائلون برفع اليدين عند تكبيرات الانتقال على كون حكم رفعها كحكم الرّفع في تكبيرة الإحرام واختلفوا في صفة محاذاة اليدين إلى المنكبين عند الرّفع‏.‏

والتّفصيل في ‏(‏صلاة ف / 60 - 61، 73‏)‏‏.‏

ج - وضع اليدين حذو المنكبين في السجود‏:‏

7 - اختلف الفقهاء في الموضع الّذي يضع فيه المصلّي يديه عند سجوده‏:‏

فذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه يستحب للسّاجد أن يضع يديه حذو منكبيه‏:‏ أي مقابلهما لحديث‏:‏ «أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا سجد أمكن أنفه وجبهته من الأرض ونحّى يديه عن جنبيه ووضع يديه حذو منكبيه»‏.‏

وذهب الحنفيّة إلى أنّه يسن للمصلّي أن يضع وجهه بين كفّيه بحيث يكون إبهاماه حذاء أذنيه لحديث وائل بن حُجْرٍ‏:‏ «أنّه عليه الصّلاة والسّلام كان إذا سجد وضع وجهه بين كفّيه»، وقال ابن الهمام‏:‏ ومن يضع كذلك تكون يداه حذاء أذنيه ؛ ولما ورد عن أبي إسحاق قال‏:‏ «سألت البراء بن عازب‏:‏ أين كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يضع جبهته إذا صلّى ‏؟‏ قال بين كفّيه»‏.‏

وذهب المالكيّة إلى أنّه يندب للسّاجد أن يضع يديه حذو أذنيه أو قربهما‏.‏

قال الخرشي‏:‏ وظاهر كلام خليل كالرّسالة تساوي الحالتين في الحكم، ولم يعلم من كلامهما مقدار القرب الّذي يقوم مقام المحاذاة في النّدب فإنّه يحتمل أن يكون بحيث تكون أطراف أصابعه محاذيةً لهما، ويحتمل غير ذلك‏.‏

وقال ابن ناجي‏:‏ ويحتمل أنّ في المسألة قولين، قال العدوّي‏:‏ نعم قول القيروانيّ ‏"‏ أو دون ذلك ‏"‏ يحتمل المنكبين أو الصّدر وهو الأقرب، فقد قال بحذو المنكبين ابن مسلمة، وقال بحذو الصّدر ابن شعبان‏.‏

د - محاذاة المناكب في صفوف صلاة الجماعة‏:‏

8 - اتّفق الفقهاء على أنّه يستحب في تسوية صفوف صلاة الجماعة محاذاة المناكب وإلزاق كلّ واحد منكبه بمنكب صاحبه في الصّفّ وذلك حتّى لا يكون خلل أو فرجٌ في الصفوف لحديث أنسٍ رضي الله عنه عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «أقيموا صفوفكم فإنّي أراكم من وراء ظهري، وكان أحدنا يلزق منكبه بمنكب صاحبه وقدمه بقدمه»‏.‏ ولحديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال‏:‏ «أقبل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم على النّاس بوجهه فقال‏:‏ أقيموا صفوفكم ثلاثاً واللّه لتقيمنّ صفوفكم أو ليخالفن اللّه بين قلوبكم، قال‏:‏ فرأيت الرّجل يلزق منكبه بمنكب صاحبه، وركبته بركبة صاحبه، وكعبه بكعبه»، ولحديث ابن عمر رضي الله عنهما قال‏:‏ إنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «أقيموا الصفوف، وحاذوا بين المناكب، وسدوا الخلل، ولينوا بأيدي إخوانكم، ولا تذروا فرجاتٍ للشّيطان، ومن وصل صفاً وصله اللّه ومن قطع صفاً قطعه اللّه»‏.‏

والتّفصيل في مصطلح ‏(‏صلاة الجماعة ف / 24‏)‏‏.‏

الجناية على المنكب

9 - الجناية على المنكب إمّا أن تكون عمداً أو خطأً‏.‏

فإذا كانت الجناية على المنكب عمداً وكان القطع من مفصل المنكب يجب القصاص عند توافر شروطه‏.‏

‏(‏ر‏:‏ جناية على ما دون النّفس ف / 13 وما بعدها‏)‏‏.‏

أمّا إذا أدّت الجناية إلى قطع اليد من المنكب خطأً فقد اتّفق الفقهاء على وجوب نصف الدّية فيها واختلفوا في وجوب حكومة عدل فيما زاد على الكفّ إلى المنكب‏.‏

وللتّفصيل ‏(‏ر‏:‏ ديات ف / 43‏)‏‏.‏